ثلاثون عاما من عمّان

حسن حيدر

إعلامي وصحفي أردني

مضى على وجودي في الأردن ٣٠ عاما، وصلت إليها في الثاني من كانون ثاني/ يناير ١٩٩٢ قادما من الكويت، في رحلة شكلت تفاصيلها، متواليات الغزو العراقي للبلد الذي ولدت فيه وكان مهد طفولتي ومربع صباي.

بمفاهيم سياسية معينة، عدت إلى أرض الوطن، إلا أن الشعور بالغربة ظل يلازمني فترة طويلة .. لم تكن حينها الأشياء في عمّان تشبهني، لا بالمفاهيم الثقافية أو الاجتماعية، أو حتى في أسلوب الحياة.

بدأت بالتعرف على تفاصيل عمّان وأسلوبها الفريد، في ذلك الوقت كانت البشرية تنتظر مرور ثمان سنوات للانتقال إلى  الألفية الجديدة، لكن عمان حينها بدت كمن يقاوم ذلك الانتقال ..  سريعا بدأت أكتشف وطني واتعرف عليه والبدء في الاندماج مع المجتمع.

كان الكاز يباع على عربات تجرها الحمير، فيما كان العملاء يترصدون لتلك العربات على قارعة الطريق في أيام الشتاء الطويلة والباردة .. اكتشفت حينها أن الحصول على الدفئ تحدي يعيشه الأردنيون .. في الكويت لم نواجه أبدا تحدي الحصول على الهواء البارد في صيف البلاد القائظ .. لم أكن أتوقع أن التكيف مع الطقس يمكن أن يكون باهض الثمن لهذا الحد .. خلق هذا التحدي أسلوب حياة خاص في عمّان .. كان الأردنيون يتكورون نتيجة طبقات الملابس التي يرتدونها فوق بعضها للحفاظ على دفئ أجسادهم.

اكتشفت، فيما كنت اكتشف، أن الملابس المستعملة تباع، ولها سوق خاص بها، والتسوق به في نهار العطلة الأسبوعية هواية يمارسها الأغنياء قبل الفقراء، ... بشكل عام، ثقافة ممارسة الهواية ضحلة في المجتمع الأردني، نتيجة لغياب الأدوات والوسائل التي تسمح للعمانيين أن يكون لهم هوايات .. وجدوا في سوق البالة ضالتهم، وخلقوا لهم أسلوبا فريدا للترويح عن النفس.

تعرفت على شيء جديد في حياتي اسمه "جدول توزيع المياه"، كانت المياه في الأردن - ومازالت - تصل إلى السكان وفق جدول مبرمج بواقع ١٠ ساعات كل أسبوع تقريبا، كان الجدول هذا ينشر في الصحف اليومية بصورة دورية، وعلى كل مواطن أن يعرف موعد ضخ المياه إلى منطقته لأن ذلك مرتبط بخطط الغسيل والاستحمام ومجمل عمليات التنظيف .. جدول المياه هذا كان - ومازال - يشكل الكثير من تفاصيل حياة الأردنيين وأسلوب معيشتهم، في الحقيقة فإن هذا الجدول يمثل جزءا من الخطاب الإعلامي الرسمي القائم على تعزيز ثقافة شح الموارد وضعف الإمكانيات، هذا الخطاب ساهم إلى حد بعيد في تشكيل العقل الأردني الذي بات يتقبل كل شيء من أي شيء.

وبمناسبة الصحف التي كانت تنشر "جدول توزيع المياه"، فاجئتني المساحات الضخمة التي يتم تخصيصها للوفيات وتعازيهم، واكتشفت أن تلك التعازي "الإعلامية" تستخدم كأحد أدوات المجاملة الاجتماعية والسياسية والعلاقات العامة، أو للتأكيد على مكانة المتوفى وآله في المجتمع ..  أما على الأرض، كانت الجنازات تشيع في مواكب تسير ببطئ في الشوارع مسببة ازدحامات، تعبّر بدورها أيضا عن "حجم" المرحوم وثقله .. تعرفت حينها على وظيفة أخرى من وظائف الموت.

كنت لأول مرة أرى إعلانات "النوادي الليلة" في الصحف التي كانت شبه ناطقة باسم الحكومة، تعلن عن حفلات السهر و الرقص، مع صورة كاملة للراقصة تبين إمكانياتها التنافسية مع زميلاتها في النوادي النظيرة .. كانت من طقوس رمضان أن تختفي تلك الإعلانات، في واحدة من مظاهر البراغماتية التي يستخدمها النظام في إدارة البلاد، كان الكل راضيا، زبائن النوادي الليلة الذين يأخذون استراحتهم في رمضان، والإسلاميون الذين كان يتسلل إلى نفوسهم أن إغلاق النوادي الليلية في رمضان ومنع إعلاناتها جاء استجابة لرغباتهم وضغوطهم.

لكن دعوني الآن أحدثكم عن الصدمة الأكبر، حينما شاهدت بائع الخبز يقسم رغيف الخبز لكي يضبط الميزان على الوزن الذي طلبه المشتري، فإن كان طلب الزبون كيلو من الخبز مثلا، وتم وضع عشر أرغفة وكان وزنهم يزيد عن ذلك بخمسين جرام، كان يعمد إلى قص قطعة من الرغيف ليكون الوزن كيلو غراما كاملا، أما القطعة التي تم قصها، فيتم إضافتها إلى طلب زبون آخر ربما كان بحاجتها لضبط ميزانه .. ممكن ان تكون طلبيتك في النهاية 9 أرغفة وثلاثة أرباع الرغيف .. مشهد يروي كل شيء عن ثقافة المجتمع آنذاك وأسلوبه، إلا حكاية القسط في الميزان.

في ذلك الوقت، لم يكن العالم قد غدا "قرية صغيرة"، وكان الانتقال من مكان المولد والنشأة والصبا والشباب، للعيش في مكان آخر، يشكل تحديا نفسيا وثقافيا معقدا، لكنه بالتأكيد يضيف إلى الخبرة في الحياة مزيدا من المهارات.

المسافة بين الكويت والأردن لا تعتبر كبيرة في حساب المسافات بين الدول، لكن الفجوة الثقافية وأسلوب الحياة كانا كبيرين، معظم من انتقل في تلك المرحلة، خصوصا من كان في سن الشباب واجه صعوبة بالغة في التأقلم.

على أي حال .. عمان اليوم تغيرت، بادرت بعض المخابز إلى تخصيص كميات من الخبز مجانا لمن لا يملك قيمته، واختفت عربات الكاز التي تجرها الحمير، لصالح سيارات الـ "ديلفري" التي توصل كل شيء إلى البيوت إلا الكاز، أما جدول توزيع المياه فقد أصبح متوفرا على الموقع الإلكتروني لـ "مياهنا"، بقيت أزمة المياه وجدولتها، لكنها استفادت من تطور تقنيات التواصل .. وتراجعت ثقافة إثبات المكانة الاجتماعية على صفحات الوفيات مع تراجع الطلب على الصحافة الورقية، أما مواكب الجنائز فقط منعتها الشرطة بقوة، إلا أن مواكب الأعراس التي يعبر فيها بعضا من الأردنيين عن "حجمهم" مازالت تتحدث عن بعض الموروثات الرجعية التي تعشش في ثقافة المجتمع.

بدت لي عمان، حين وصولي لها، فوضوية معقدة ومتعكرة المزاج .. يصعب أن تحدد موقفك منها .. لكنها بالتأكيد لم تكن مستعدة للترحيب بكل أولئك القادمين من الجنوب والشرق دفعة واحدة، خلق ذلك حالة من الاضطراب في حياة من كانوا آنذاك "العائدون من الخليج" ...