لم يعرف كيف يمكن للألم أن يكون بتلك النقمة على قلبه قبل أن ينظر بعيدا، قبل أن يسمع ردّه ويقبّل سمعه ويدمي روحه. "أنا هنا جيّد في جلدي أنعم بالكثير، ولست حزينا فالسعادة في بيتي تعمّر وتعرّس".

عرف كما يعرف كل صباح ومساء، أن كلماته كذب كما الكثير من حول الكثير، فرحل وهو يبكي والسماء تمطر على رأسه، وقد سمع طيورا، وشلالات، وشاهد صفحات المياه وحزنه عليها يذكره بأساه. رفع بصره للسماء وطلب الرب وهو الذي لم يطلبه يوما، هل كان من قلبه الكلام يصدر، أم من حنجرته التي بها بلغم، ولسانه فقير إلى طعم الذل والخضوع، وغنيّة كلماته بكل رجاء الكون تصدح في الغابات والطرق التي لم تعد مغبّرة.

"ربّي قوّة أسألك فكثيرة الهموم على صدره سلاه، أنا هنا أبكي لبكائه سلاه، وهو يهرب منّي ويدّعي سلاه، أن الحياة جميلة وأرضه تخبرني بغمّه، إلهي كثرت الهموم عليه، أسئلك شوالا تحيلها وأنا أهرب بها سلاه، فقلبي له وحزني كبير".

صرع ومات في أرضه والحيوانات تحسبه ماض، وحينما كان النهار، عثر على المطر الرفيق، على الطين اللازب، على الطرق المختفية، على لون الرماد فوقه، ورائحة الغم تحته.

على صدره كانت عصا، وتحته شوالا من الخيش عامر، وضع الشوال على عصاه ثم على كتفه، نسي شكر ربّه، وقد أخبرته الريح بأن صديقه أفاق على حب الجميع له، همست في أذنه أن في منزله صارت الشمس، وفي وجهه النور وحوله كثر الناس والفرح والسرور، وقد صار لديه المال والسعادة والبنون والجاه والرضا.

مشى لخمسين سنة حتى سقط جلد وجهه أسود من الأسى، أحاله الشوال مهلوسا، فيه الحمّة، وعلى جثّته لون الليل، وتحت عظامه اللحم نتن، وعمره قصر، ورجلاها فشلتا في رفعه، فراح يريح ويجيئ تحت الطريق وفوقه، وعند رأسه يراعة تقول "الشوال مسموم، يا صاحب القلب الحنون، هموم صاحبه حمل وهمومه نسي، هنّ هنا وأنت غبت عن العيون، أنظر إلى الناس من حولك لا تلاحظك، أنظر إلى حالك إن بقت فيك عيون، وفيك أرى الكثير وليس من تكون"، أجابها وشفافه تكتوي " ليست سعادتي تكون من غير سعادته، ولست أكون وهو بعيد، حولي كان وروحه خلف الجبال، والآن هو بعيد وروحه في قلبي تعيش للآن". رثت اليراعة عليه فنادت الإله تسأله أن يخفف عنه، وإلى أظلم ركن في صدره الرب نظر، فكانت فيه أمنية خديجة، أن يرتاح من الشوال وينام لهنيهة، فأجاب الرب، ومن الشوال هربت خمس هموم كظلال الصيف تحلّق كالغدفان، فإذا به يفيق وفيه شهقة ويصيح، إلهي لم تفعل بي هذا وأنا لست سعيد، إلهي أنا أركض خلف همومه لأعيدها إلي، فانظر لثوبي ممزق ورجلي في الطين، أنظر إلى جثّتي تسقط وأنظر إلى صورة صديقي في قلبي، فأنا ابغى السلام وسعادته أبغاها أكثر.

أعاد الرب الهموم إلى الشوال، فعاد يجول في الأراضي، وقد أتى يوم شعر بموته، وفي مساء جميل جلس تحت شجرة خرّوب في مرج واسع قافر، بأظافره حفرة صنع في صدره، وداخلها الشوال أخفى، وبآخر خيوط الأمل أخاط جرحه.

قالت له الريح ثانية "صديقك تذكرك البارحة، وقد قال في سره " أشتاق إليك يا أعز صديق"، ابتسم ابتسامة أذابت الثلوج بدفئها، وأحاط طيف الموت يديه وراح مع شواله.

مرّت السنون ونمت زهور في المكان وكانت زنبق العناكب حمراء من دمه، وجميلة من حبّه.