درستُ كثيرًا طيلة حياتي، لي ما يقارب الـ 16 سنة في الأروقة التعليمية، وأحتجتُ لوضع ألوف الساعات في الدراسة حتّى أدخل مدارس المتميزين، والاعداد للبكلوريا ودخول كلّية الطب، وفوق هذا أنا ممّن يحبّون الدراسة بالفطرة، يُعرِّفني بها أقربائي، وأشعر لو لم أدرس ليومين متتاليين، أنِّي لستُ على ما يُرام، كمن يشكو أنفلونزا لا تزال في رأسه.
أثناء هذه الفترة، تعلّمت الكثير عن طرق الدراسة النافعة، والتحضير للاختبارات الصعبة، وصلتُ لمرحلة احلّل فيها شخصيات المدرسين حسب الأسئلة التي وضعوها في السنين السابقة، هذا يُحبّ سطور كتابه، وهذا يحبُّ اسئلة مصدر معيّن، وهذا يستقي أسئلته من عرّافة مجنونة!
لم أكن أخسر درجات في الابتدائية، وعندما دخلتُ مدرسة المتميّزين لأوّل مرة، سلّمت ورقة الأجوبة بعد عشر دقائق من الأمتحان، كنتُ أظنّ أنِّي عرفت كلّ الاجابات كما كنتُ أفعل دومًا، حصلتُ على 80 من 100 في ذلك الأمتحان، وكان من الضربات النفسية التي أذكرها حتّى الآن.
كلما كبرت، أخسر شيئًا من ثقتي في الامتحانات، لم تعد الدرجات الكاملة شيئًا يُنال بسهولة هذه الأيّام، ولم تعد المنافسة سهلة كالسابق. لهذا كتبتُ اليوم، الدراسة ضربات مستمرّة للعقل اللاواعي.
الشيء الاضافي الذي تغيّر، هو أنّ الدرجات لم تعد لها قيمة كبيرة، فلو حصلت على أمتياز في فصل الجراحة، وقد حالفني الحظّ في توقّع أسئلة المدرّسين، فهل سأكون جرّاحًا جيدًا؟ هل سيغنيني هذا عن تعلِّم مهارات يدوية لا أتقنها؟
عندما تدرس، فأنت تقارن نفسك بالأقران، وهذه من المقارنات التي يصعُب تفاديها، عندما ترى سجلّ الدرجات، وتراك مبتعدًا بثلاث درجات عن أفضل الطلاب، ألن تُشكّك بنفسك؟ عندما ترى الناس في مجموعة الدراسة، يتحدّثون في ليلة الأمتحان عن سؤال ما عرفت بوجود مادته أصلًا، ألن يزداد شكّك؟
ليتها تنتهي عند مقارنة الأقران، الدراسة تتضمّن مقارنات مستمرّة مع مدرّسي المادة، الناس الذين يُتقنون المادة وأنت لا زلت تُعاني في تحصيل الأساسيات، في كلّ مرّة يُبهرك مدرّس بطريقة تدريسه، احذر من أن تضع نفسك مكانه!
أعرف طبيبًا يكبرني بأربع سنوات، مستوى معلوماته مذهل! لا أكفّ عن مدحه أمام أصدقائي، ولا ينقضي عجبي من طريقته المنهجية في تحصيل العلوم، وطريقته السهلة في نقلها للطلاب. قد يكون بديهيًا أن لا أقارن نفسي بشخص يكبرني بأربع سنوات، لكن هل أحدّثكم عن طريقة خبيثة أخرى للمقارنة؟
عندما أريد المقارنة، فأنا لا أقارن حالتي حاليا بحالة طبيب يكبرني بأربع سنوات، إنما أقارن حالة الطبيب قبل أربع سنوات بحالتي حاليًا، هل كان يتعامل مع المواد بتململ كما أفعل أنا الآن؟ لو كان بمثل حالتي الآن هل سيكون بمثل حالته بعد أربع سنوات؟ لا أعتقد.
إذا سعيت لأن تكون كقدوتك، ففي يوم مشرق، سيكون هذا محفّزًا لبذل الأفضل، وفي يوم يكون فيه مزاجك مظلمًا، فما في الأمر إلّا زيادة للهم، وتكدير لصفو العيش.
كن أنت، قارن نفسك بنفسك أمس، لا تعش في المستقبل أكثر مما ينبغي، خذ من قدواتك ما يحفّزك فقط. لعلّها عبارات مُعادة تكثر على لسان أهل التنمية البشرية، لكنّها لا تخلو من صحة.
أعتقد أن أغلبنا محصّنون من المقارنات عن ادراك ووعي، لكن هل نحن محصّنون من المقارنات في عقلنا اللاواعي؟ هل نحن محصّنون من مقارنات تجري في اللاوعي في المذاكرة والدراسة؟
أعتقد أنّنا نتعلّم كثيرًا عن أهميّة الدراسة، لكن لا يعلّمنا أحد عن الوقت الذي يُمكن أن تتحوّل فيه الدراسة، إلى سلوك لا يزيدنا إلّا همًا وأرقًا.
التعليقات