....وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ.... كاد الفقر أن يكون كفرا ...لو كان الفقر رجلا لقتلته , اليد العليا خير من اليد السفلى , ذريني للغنى أسعى فإنّي رأيتُ الناس شرّهم الفقير ....اِحْلِيلِي على الدّراهم اللّي خَلّتني رَاهِم ....وغيرها من الشواهد الفصحى والشعبية الشرعية والعُرفية كلها تصب في ساقيةوسياق تقبيح وذمّ الفقر بل و الاستعاذة منه , إلا في المدرسة الجزائرية فكلّ الشواهد تحثّ عليه و تجمّلُه!
لم أكتب هذه المقالة و أنا تحت سلطة النقد, بل كتبتها و أنا تحت سلطة تلميذِنجيب استنطقته بسؤالين بسيطين بحجم عمره الذهني و المعرفي عميقين بحجم قصدي النقدي : كيف ترى الفقير : هو ذلك الذي لا يملك نقودا, الطيب الذي يفعل الخير و يجب أن نفعل معه الخير ونعطيه ...ويلبس لباسا مهلهلا؟
وكيف ترى الغَني : الغني جشع شرّير , والإنسان عندما يصبح غنِيّا يتكبر و يحتقر الناس دائما ....!
هذه الكارثة أو الاختلال الدّلالي القيمي لم يُولد به هذا التلميذ , وغيره من تلاميذ المدرسة الجزائرية ,بل هو درس تلقاه هناك ....هنا في مدارسنا ....
كثيرا ما صوّرت لنا نصوص القراءة الفقير ذلك الطيّب العطوف ,المحبّ للخير التّواق لفعله المستحقّ للعطف والتصدّق, فالمستهلك لهذه النصــوص يصدّق بل و يعتقد اعتقادا لا يقبل الشكّ و الرّيب بأنّ الفقر قَرِينُ الرأفة والطيبة و الرحمةوالخير , أما الغِنَى فقَرِينُ الشرّ والكِبْر والطّغيان والظلم , يصوّر الغني ذلك الجشِع الشرّير الذي يأكل مال أخيه و يسلّمه للأعادي ويقتله .... يسرق و يعتدي , و كأنّ الفقراء مَلَائِـك لا شرّ فيهم ,أما الأغنياء فلا خيرفيهم أو منهم يرتجى !
هذه السوداوية في تصوير الغني , والجمالية في تصوير الفقير تستدعي قراءات على عدة محاور منها:
1ـــ اقتصاديا:إنّنا نسعى لتكوين مواطن بمعايير الحدّ الإنتاجي الأدنى , لذا فلا عجب إن وجدنا أنّ المتسربين من المدرسة هم أكثر فعالية ,و إنتاجية و احترافية في استنطاق الصخر والوقت دينارا... و أكثر إخلاصا للمهام التي يتقلدونهافي التجارة والزراعة والبناء وغيرها , وهنا قد نقف على صفة انعدام الفعالية الأصيلة في المثقف الجزائري التي أشار إليها مالك بن نبي في الفترة الاستعمارية و ظلت المدرسة تكرسها عبر تدريس الفقر الجميل و الغنى القبيح.
2ـــ أخلاقيا:نوقع التلميذ في فارق القيمة الأخلاقية بين ما يستهلكه في المدرسة حول ثنائية الغنى والفقر و ما يراه في مجتمعه وواقعه من معايير و قيم مخالفة تماما لما تلقاه في حجرة الدّرس , هنا تَـــؤُزُّه فطرته التي تهفو إلى الأكمل و الأكرم ...والأعلى...فتسقط المدرسة في الحَرْفِيّة الخشبية أو المثالية التي تؤدّي بالمتعلّم إلى عدم الثقة في خطابها و قيمها عندما تنمو مداركه في مراحل التعليم المتقدمة أو إلى النفور منها أصلا .
3 ـــ اجتماعيا: يمكننا أن نقرأ في هذا التصوير المتوارث إصرارا على إعادة إنتاج الطبقية الاجتماعية, ليظلّ الفقير و متوسط الحال على حاله عبر مخاطبة عقله الباطن في سنّه الصغيرة و إيصاله إلى قدرية الفقر و جماليته, و هذه الفئة الفقيرة ومتوسطة الحال هي الغالبية العظمى من مستهلكي هذه النصوص , إذْ لا حظّ لهم في المدارس الخاصّة ومصادر المعرفة غير المدرسية الأخرى...
أما تربويا فأرى أن مهمتنا ومهمة المدرسة قد نجحت عندما أجاب و يجيب تلاميذ مؤسساتنا التربوية ....بإجابة كالتي ذكرناها قبلا ........تمدح الفقير و تذمّ الغني , تبحر ضدّ تيار الشّرْعِ والعُرْفِ و المنطق.....الإنساني!