دوستويفسكي ذاك الكاتب الذي أرهق قارئيه قال: «لم أر نظرات الحُب الحقيقية إلا على عتبات المقابر، والمستشفيات، نحن أُناسٌ لا نتذكر من نحبهم إلا في النهاية». لقد كان صادقا جدا كأنه قضى كل عمره في المستشفيات يصول ويجول ويخالط أهالي المرضى وذويهم. دوستويفسكي ثاقب البصيرة في ما يخص المشاعر الإنسانية وتعقيداتها، إذ يستطيع بجبروت كلماته تنزيل تلك الأحاسيس الموغلة في الغرابة إلى حلبة الرواية. يكشفك لنفسك وهو يتكلم عن أبطاله في بترسبورغ خلال ستينات القرن الماضي. مقولته هذه، التي صادفتها مرة، جعلتني أتوقف قليلا مع ذلك الشعور الذي أخبره كل يوم، داخل أقسام المستشفى الكبير الشاسع كأنه عالم قائم بذاته له قوانين لا تشبه القوانين وأعراف خاصة وحكايات لا تشبه الحكايات. ذلك الحب الجامح والحقيقي والقوي والمتفجر جدا إلى درجة تعوزك مقدرة استيعابه فتسأل نفسك: هل يوجد حقا هذا الحب خارج المستشفى أم فقط داخله..!؟ الحب الذي يجمع المرضى بذويهم، أصحابهم وأقاربهم عندما يصلون إلى النهاية، فيتوافدون غارقين في أنهار دموعهم مكبلين بأحزانهم وندمهم، يتمنون لحظة يجلسون فيها إلى مريضهم، يحدثونه عن أخبار البلدة ومحصول العام من الزيت والقمح، وذكريات الطفولة وحب المراهقة وخبز الأمهات. علاقات كثيرة تكون قد قطعت لأسباب مختلفة فيجمعها المرض والألم وقرب النهاية، لتعود أقوى من سابق عهدها ولو لأسبوع يسبق رحيل المريض، صلح على عتبات المركبات الجراحية، واعتذارات بالآلاف وطلب عفو وصفح على مشارف الوداع. تلك الأنانية المتجسدة في الرغبة بأن نجعل آخر عهدنا لطيفا ولائقا. بأن يظل راسخا داخل ذاكرتنا كنهاية مريحة. أعرف شخصيا أناسا يعانون من اضطرابات نفسية كثيرة تختلف حدتها من شخص لآخر لأنهم لم يتمكنوا من طلب الغفران والاعتراف بالود والمحبة لأقاربهم الذين رحلوا عنهم رغم أن العلاقة كانت لا ترقى لكل هذا الندم. الحب الذي يفاجئك تجاه شخص في لحظاته الأخيرة أو على عتبات المطار للرحيل إلى بلد آخر، العاطفة التي تجتاحك لتذكرك أنه سيختفي وبذلك لا مجال لتلك المصارحة التي أجلتها دائما، تلك الجمل التي خزنتها لموعد آخر وذلك الصلح الذي أغفلته حتى علمت بأنها النهاية. انشغالك عن هذه العلاقة أثناء تواجد المحبوب أو الصاحب قربك وتجاهلك لها وله على الرغم من أنه بجانبك ومعك لتكتشف مع أزف الرحيل أنه مهم، ووجوده مهم. ندمك لأنك لم تستطع يوما الاعتراف لأخيك بالحب الذي تكنه له، وتعاستك لأنك كنت تضع الحواجز بينك وبين أبيك فتتجنبه وتتجنب كل الأحاسيس التي تدور داخلك تجاهه، ثم تحين النهاية لتدرك بحسرة أن الكلام الذي لديك تلزمه سنوات من البوح ولن تكفيك.
جميلة هي الحياة لأنها تعطينا فرصا كثيرة، لكنها عندما تقرر أن لا تفعل، تصبح كزوجة أب تعيسة. ترى في أبناء زوجها سببا لتعاسة تحملها بداخلها حتى قبل أن تلتقي أباهم. هي كذلك تماما عند النهايات التي لا مفر منها، لا فرص، ولا مجال لتعويض ما فات، أنت تواجه سنوات تجاهلك وغفلتك وأياما طويلة عريضة كان من الممكن أن تبوح فيها بسلاسة وسهولة لكنك فضلت التأجيل واخترت أن تنتظر اللحظة المناسبة التي لا تأتي أبدا.
أتفهم أننا كائنات معقدة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمشاعر والتعبير عنها، على ألسنتنا يقف حراس يحملون مقامع من حديد يجهضون كل محاولاتنا للبوح، على وجه الخصوص مشاعر الحب والامتنان والشوق للمقربين، ندعي أن مواقفنا تفعل ذلك، وأننا لسنا في حاجة لنسج المعلقات حتى يدرك المحبوب مكانته في قلوبنا. لكننا في حاجة لذلك أكثر مما يحتاج هو، في حاجة لأن نسمح لأشواقنا بالتحليق ولمحبتنا بالتجسد في هيئة كلمات وخواطر ورسائل وجمل. في حاجة أن نخبر من نحب بأننا نحبهم ونتمنى تواجدنا معهم لولا زوبعة الحياة وصخبها. بحاجة لأن نستغل الحياة للتعبير عن الحب لا أن نسابق الموت لإلقاء جمل باهتة لا تزيد الوداع سوى حرقة وضنك.
التعليقات