عندما يتحدثُ إنسانٌ ذو وعي وفكر أو ما يسمى بالمصلحِ الاجتماعي عن مشكلةٍ ما فقد تجدُ بعضاً من المتأثرين بهذه المشكلةِ لا يأخذونَ الحلول التي يطرحها على محملِ الجد؛ وذلك بسببِ اعتقادهم أنه لم يعاني وطء المشكلة عليه، ولا عاش أحداثها بشكلٍ مباشر، فكيف يتحدثُ عنها وهو بعيدٌ عن ظروفها والعوامل المحيطة بها. ولذلك فقد يقول قائلٌ منهم: ما الذي يُدريه بمعاناتنا وآلامنا حتى يتحدثَ عنها وهو لم يتعرض لنفس الظروف ولا نفس المؤثرات التي خضعنا لها رُغماً عنا. أيتصنع شعور الجوع وهو شبعان حتى يتحدث عن العوز والحاجة ويدعي بعد ذلك المصداقية؟ ألم يجدر به أن يكون واحداً منا نحن المتضررين حتى يتحدث عن أوجاعنا ليصبح ما يقوله حقيقياً وصادراً عن تجربة شخصية لا عن طريق السمع والنقل؟

وهنا يطرح السؤال: هل على المؤثرين في المجتمع أن يتعرضو لنفس (حالة) المتأثرين بمشكلة ما ليصبح لهم حق التحدث عنها وإبداء الأراء وطرح الحلول؟ أم هل يكفي  للمؤثر أن يعلم بوجود خللٍ ما فياخذ بالأسباب الظاهرة له، ويأتي بفكرة أو بأخرى دون التحرك من مسافته الآمنة والمخاطرة بالخوض في البيئة المصابة؟

أعتقدُ أن هذا يتوقف على درجة إخلاص المؤثر في عرض المشكلة وحلها ونيته القلبية.

فإذا كان يسعى للشهرة والسمعة من حديثه فلا يجب  عليه التعمق في معرفة أسباب ودوافع المشكلة، ولا يلزم عليه البحث ولا الاستقصاء أو الشك فيما يراه ظاهرياً حتى يثبته عن طريق الاختبار والتجربة. فمن غير الضروري لذلك الشخص أن يخوض في هذه التجربة الصعبة فقط حتى ينال استحسان الناس ومديحهم، فكل ما عليه فعله هو الضرب على الوتر الحساس واستثارة عاطفتهم لتخدير إحساسهم الحقيقي بأصل المشكلة. وهذا أمر ليس بالصعب بل هو يسير لكل من حظي بفصاحة اللغة وجمال اللفظ وإن افتقر كلامه إلى المعنى الأصيل والمرجعية الموثقة.

ولهذا نرى كثرة المتحدثين والكتاب في جميع قنوات التواصل الحية. ويشتهر فيهم من حصل على أكبر نصيب من الاعجاب بغض النظر عن إسهامه في معالجة المشكلات من عدمها. وهذا أمر طبيعي ومتوقع.

لذلك أعتقد أنه إذا أراد شخص ما تسليط الضوء على نفسه لإعتقاده بأنه يستحق التميز عن غيره فهذا حقٌ مشروع لا يُلام من يسعى وراءه. لكن أن يزعم هذا الشخص أن حديثه ذاك هو تغييرٌ إيجابي للمجتمع، ومعالجةٌ لعلاته، وإنقاذ لأفراده من مستنقع الغفلة فهذا إدعاء في غير محله. والأجدر به أن يكون صادقاً مع نفسه، شريفاً في مطلبه، حتى يتمكن من معرفة ما يريد حقاً، فإن كان يريد الشهرة فقط فليس عليه إلا أن يسعى لتحقيقها بدون تزييف للحقيقة أو تجميل للواقع. فإن لم يطق فعل ذلك فربما يقرر حينها أن يفسح المجال لغيره من المؤثرين اللذين اخذو على عاتقهم تحمل مسؤولية البحث والدراسة، والاستنباط من الكوامن الخفية ما يتناقض مع الظاهر سهل القطف، سريع الاستنتاج.

لا يعني ذلك أن عليه أن يتوقف تماماً عن التحدث او إنتاج المحتوى. فهذه تضييع للمواهب والقدرات لا ينصح به عاقل. لكن ربما يمكنه التحرك الى مستوى آخر في تقديم المحتوى لا يشترط كل تلك المعايير العالية. مثل تقديم الكوميديا أو التحاور مع ذوي الخبرة، أو تقديم تجربة حية مثل السفر والتجوال، أو التدريب على مهارة معينة وغيرها من الأمور التي لا تتطلب بحثاً مستفيضا عن دواخل الناس، ودوافع النفس البشرية.

من الناحية الأخرى فإن من عليه استلام الراية والوقوف مكان هذا الأخير هو الانسان الحازم الذي يخاطر بالتخلي عن مسافته الآمنة، والذي يتجاوز منطقة الراحة الخاصة به ليقف داخل المعمعة، غير مبال بما يناله في سبيلها من مشقة. يجدُ هذا الشخص في نفسه القدرة على الصبر خلال الكشف عن الحقائق، وتنوير الناس عن بقعة ما في المجتمع تحومها الظلال، وتحيط بها الحواجز.

بالإضافة لذلك فإن من صفات هذا الفرد أنه لا يقيس النجاح بمقدار الشهرة التي حصل عليها في مجتمعه. وبالتالي فإنه يتعامل معها فقط كنتيجة و ردة فعل لمحتواه وليس كغاية أساسية يجب الفوز بها.ولذلك فهو يتميز بالتأني وعدم توقع النتائج السريعة. ويتحرى الدقة والأمانة لنقل ما يراه ويسمعه بأصدق صورة. 

أخيراً، لا أعتقد أنه يوجد الكثير من أمثال هذا الشخص في مجتمعنا. ولكن إن وجدنا امرءاً يشابهه فهو بالتأكيد عملة نادرة. وعندها ينبغي لنا الحرص على متابعته والاستفادة من تجربته، وربما الاسترشاد به في حياتنا كدليل، ومَثَل يُحتذى به في تحريه للحقيقة، مما يعكس صدقنا في الانتاج، وجودة ما نقدمه تبعا لذلك.