من العقل البشري الذي تلوث بفضلات الإعلام، تنطلق الأفكار على شكل كلمات لتعبر عن انحطاط ميتا-معرفي مشوه، لا هو بمنطقي و لا هو بواقعي، وإنما تعبير نفعي يعتبر أن الوجود الإنساني ماهو إلا سيرة قصيرة للبقاء النوعي داخل دائرة الصراع البيولوجي. إنه يحصر الإنسانية في معنى وظيفي سلوكي منهزم، يجعل من الإنسان كيانا بيولوجيا يعمل ليعيش و ينسخ نسخا أخرى منه بطريقة تختلف عنه في الكم فقط. و بعبارة أكثر تفصيلا، إنه يجعل الإنسان كحيوان وقع في هذا العالم ليأكل و ينفرز مزيدا من الضحاياالأأخرى إلى عالم الإنشاء بسبب نشوة و شهوة، ضحايا لم يقرروا أن يكونوا و لن يقرروا كيف سيكونا. إنهم هنا الىن و لأجل ال"هنا" و "الآن" سيستمرون دون إختيار و قرار، سيستمرون فقط بتكرار التمثيل على خشبة المسرح التي لم يفهموا حتى لماذا هي هكذا.

إنني أتحدث عن "رؤية" سجنت الإنسان في قفص "البيولوجيا و عالم الإنشاء" و جعلته ينظر إلى نفسه كما هو و ليس كما يجب أن يكون، إنه يرى و يحس و يشعر و يتخيل و لكن تحت السقف الذي وجده حين زال المخاض عن عينه. إنه لا يستطيع أن يفكر خارج السقف، لأن ما تعرض له عقله من تشويه، ناتج عن تغذية إعلامية و مجتمعية، تحضه بأن يعيش وفق سليقته البيولوجية فقط دون الإبتعاد أكثر إلى عالم الفكر، لأن أي ابتعاد إلى هناك قد يجعله مجنونا.

بالفعل، فمعنى أن ترتفع إلى عالم الفكر و تتجرد من الواقع، و تفكر بطريقة نقدية فيما يوجد، و تبني نظاما نسقيا برهانية ينتقد الوضع القائم و يسعى لإعادة الإنسان إلى صبغته الإنسانية الحقيقية، فإنك ستصبح تحت تسلط السبابات التي ستشير إليك بالجنون و الإصابة بالعقد النفسية.

بالفعل، ستتعرض للإبعاد و التغريب، لأنك ستصبح متعاليا خطابيا و معرفيا عن أفراد يشكلون الكم المتناثر في رقعة المجتمع كأرقام و أعضاء وظيفية لا دور لهم سوى ملأ الفراغ بما يناسب وبما لا يناسب المهم هو الملأ لأن المجتمع مثل الطبيعة يخشى الفراغ.

إنك بهروبك إلى عالم الأفكار، لم تهرب خوفا من الواقع، و إنما هربت بحثا عن ترياق للسم الذي يسري في شرايين الواقع، إنك بطل أسطوري هرب للبحث عن السر الذي يعيد إلى الإنسان اعتباره، تبحث عن معنى الإنسانية ما هو؟ و ليس كيف هو؟ إنك تجري في عالم غريب عن واقعك لتجد الحل، الذي سيدخلك في صراعات نفسية و حيرة فجوية و قلق وجودي، سيضع في الأخير فوق البساط السحري لتعود كمنقذ في يده الشعلة التي يمكن أن تنير الطريق.

إنك بالإبتعاد إلى عالم الأفكار، تحاول أن تجد طريقة حتى لا يصبح الجميع كمسخ كافكا، ذاك المسخ الذي كان أصلا عاملا يعيل أسرته الصغيرة قبل أن يتحول إلى هذه الهيئة المخيفة. لقد تحول ذات صباح إلى حشرة مخيفة، بسبب العمل الروتيني و الضغوطات اليومية إلتي فرضها الواقع البورجوازي على الطبقة العاملة، و بسبب العلاقات العائلية ذات البعد المنفعي الذي فرضته الوضعية المتوحشة للرأسمالية.

لم يتحول إلى حشرة فجأة، و إنما تحول إليها بتدرج، فقبل هذا كانت في جوفه يرقة مختفية تحت جسده، تقتات على إنسانيته إلى أن صارت بحجم بالغ فخرجت من شرنقتها اخيرا.

إنها نفس القصة تتكرر، ليس في كوابيس كافكا، و إنما في الواقع الإنساني حين يفقد الشخص المعيار القمي لإنسانيته. فالإنسان لا يجد قيمته سوى في الأشياء التي يمتلكها، في المال الذي يحصل عليه و يكنزه في الابناك، في السيارة التي يقتنيها في الأنثى التي يحصل عليها في الذكر الذي تستولي عليه. لقد فقد الإنسان بهذا قيمته الحقيقية التي تكمن في وعيه بمدى سموه العقلي و إمتلاكه للحس النقدي التجاوزي، إن الإنسان الآن شرنقة لمسخ سيخرج قريبا، لقد تم إلتهام إنسانيته من اليرقة التي توجد في جوفه، إنه صار جسدا بدون كرامة و بدون عقل و بدون مشاعر، لقد صار مسخا يرتدي جسدا بشريا.

_____

بقلم: #محمد_أمزيل