آن لك الأوان أن تتعرف على مصطلح "نوستالجيا" كمتصفح مخضرم لشبكة الانترنت ، والذي يعني "الحنين الى الماضي" وهو بالتأكيد شعور قد قاسيته أو تمتعت به يومًا، وينتج عن هذا الشعور موقفين أولهما التحمس وامتلاك دافع قوي لتغيير الواقع وهذا سنسميه "نوستالجيا ايجابية"، وثانيهما الشعور بالاكتفاء بما حققته في الماضي والراحة والرضا النفسي عن النفس وخمول ورضا بالواقع الحالي بحجة أنك قمت بالكثير في الماضي وحان الوقت لتستريح كمحارب في ال٦٠ من عمره وانت ما زلت لم تكمل ٣٠ سنة اصلاً وهذا سنسميه "نوستالجيا سلبية" وهي موضوع حديثنا اليوم.

في الأونة الأخيرة انتشر في منطقة الشرق الاوسط (مصر والسعودية حسب معلوماتي) مسلسل اسمه "قيامة أرطغرل" يتكلم عن تاريخ البطل التركي أرطغرل والد مؤسس الدولة العثمانية (بعد سياسي واضح جدا مما زاد من اعداد مشاهديه لارتباطه بتركيا التي اصبح لها دور كبير في المنطقة ومحبين كثر) مطرزًا بالعديد من الملامح الاسلامية والشعارات الرنانة (بعد ديني) هي المسبب الاول لظاهرة النوستالجيا التي يعاني منها مشاهدي هذا المسلسل، اولاً ترجع اسباب متابعتهم له لاسباب سياسية ونوستالجية -لارتباطه بفترة مهمة في التاربخ الاسلامي- وبعد نفسي حيث ان اغلبهم من محبي تركيا الذين يرون في أتاتورك الجديد -أردوغان- خليفة المسلمين وبالتأكيد من الواضح انقسام الشارع المصري بين محبين لتركيا لدعمها للاخوان ومعارضين، ولكن اهم بعد فيهم هو البعد النوستولجي -بدأت أعشق هذه الكلمة- حيث يشعر المشاهدون بالحنين لفترة لم يعيشوها وأفعال لم يقوموا بها وهو ما له تأثيرات ضخمة على افعالهم ومعتقداتهم واخلاقهم، بدءًا من الطبيعة العنيفة والدموية للمسلسل مرورًا بكره مبرر من أرطغرل واتباعه للمسيحين ونعتهم بالكفار وهو فعل سيترك أثر على من يشاهدون المسلسل، مرورا بملايين الافكار والاحداث التي قد يزرعها المخرج في المسلسل ويتعامل معها المشاهد على انها حقائق تاريخية بسبب تقديسه لأحداث المسلسل، انتهاءً برغبة مستمرة في اعادة هذا العصر بأمجاده وهي رغبة يمكن استغلالها بشكل سيئ بسهولة.

ربما لم أحب مشاهدة هذا المسلسل لأنأى بنفسي عن تأثيره رغم اعترافي بمؤثراته البصرية الرائعة، ولكن ليس هذا موضوعنا، المهم أين المشكلة في كل هذا؟ هل هذه نوستالجيا سلبية ام ايجابية؟ دعنا ناخذ مثال آخر أولًا:

أتتذكر القصص التي يحكيها الشيخ كل جمعة؟ حسنًا يجب أن تتذكرها فاليوم هو الجمعة، هل كانت تؤثر عليك تأثرًا كبيرًا؟ هل تستطيع مقارنة تأثيرها بتأثير المسلسل؟ حسنًا تعالى الآن لنصنف، أول فرق نلاحظه هو أن استخدام الوسائل البصرية لحكاية الحكايات اسلوب أقوى من مجرد الاستماع للحكاية لذلك هو يترك تأثير اكبر على المستمع وعلى تصرفاته وهنا نعطي المسلسل نقطة ايجابية والحكاية العادية نقطة سلبية لانها لا تشجع على القيام باي فعل في الحالات العادية -عدم وجود احداث سياسية وغيرها-، ثاني نقطة هي أن الحكاية العادية عادة ترتبط بشخصية غير حقيقية او تم تقديسها بشكل كبير عزلها عن باقي البشر -مثل الانبياء- بينما المسلسل يتكلم عن انسان يعاني من الأسر مثلنا ثم يهرب ويصيب ويصاب ويقتل وسيُقتل، وهنا يفوز المسلس ب٢ ايجاب وعلى الجهة الاخرى تفوز الحكاية ب٢ سالب، ومن هذه المقارنة البسيطة نجد ان الوسائل البصرية اقدر على دفع الناس على القيام بافعال سواء كانت صحيحة او خاطئة عن طريق الحنين لاحداث لم نقم بها حتى أكثر من حكايات شفهية عن احداث لم نقم بها ايضا.

ولكن هنالك نوع اخر هو الحنين الى ماضي الشخص، حيث تقوم انت بالافعال وبكل شيئ، وهذا النوع من الحنين أغلبه سلبي لأنه يعطيك راحة نفسية مؤقتة وشعور بالتفوق، وليتحول لحنين ايجابي يجب أن تتدخل عوامل أخرى لا أعرفها لأن أغلب من تمتعوا بهذا الحنين لم يعودوا لبحاولوا اعادة أمجادهم لأنهم أصلاً يشعرون بأنهم قدموا أفضل ما يمكن أن يُقدم!

ماذا أريد من كل هذا؟ ثلاثة أمور: تقديس الماضي، أهمية الوسائل البصرية لحشد الجمهور، وخطورة تبني أفكار الماضي في العصر الحالي، الآن تعالى وطبق هذه المعايير على ظواهر مثل : افتخار المصريين ب٧٠٠٠ سنة حضارة، افتخار العرب بوقت لم يعيشوه وهو فترة ازدهار الحضارة الاسلامية ولكن دون رغبة في اعادة امجادها في كل هذه الحالات، ولكن هذا التقديس المستمر للماضي أعمانا عن رؤية الحاضر واستشراف المستقبل، عندما تنظر الى ما كتب قبل ٧ قرون على أنه أفضل شيئ فكيف تتوقع أن تكتب شيئًا أكثر مما كُتب؟ تقديس الماضي هو مشكلتنا الأولى، فتقديس الماضي سبب مشكلة الهوية لدى المصريين بين هوية مصرية او اسلامية او فرعونية، وتقديس الماضي سبب مشكلة عدم التجديد في أي مجال فكري منذ ما يزيد على السبعة قرون، وتقديس الماضي هو سبب الخلافات بين الفرق الاسلامية وغيرها، وتقديس الماضي سبب استعمال المدارس نفس الأسلوب الحقير في التدريس حتى بعد انتشار فيلم "الناظر"!!

أتعرف لماذا حقًا كان الجيل الأول من الصحابة هم الأفضل؟ لأنهم لم يكن لديهم ماض يقدسونه حقًا، وكذلك كان الأمر حتى عدة قرون حتى توقف العقل وبدأ النقل.