دولة عصرية.

عزيزي القارئ، عصريّة لا تعني فترة ما بعد الظهيرة أو العصر، الدولة العصرية لا تعني دولة العصر -فترة ما بعد الظهيرة- لا تنتهي.

[1]

سابقاً عندما كُانت عائلتنا تعيش في بيت جدّي، عندما كنّا نكتنز في غرفة واحدة نحن الأسرة المؤلفة من 8 أفراد، لم يكن هُناك حاسب نضيّع وقتنا به، ولم يكن هناك هاتف لأطّلع به على عورات المنازل وعورات العاهرات، كانت هناك مكتبة صغيرة، أو بالأحرى مكتبة ونصف، امّا النصف فقد كان يحتوي على مجلّات: مجلّة ماجد في أعدادها القديمة المملوءة بالقصص التي تشدّني للآن، وعددين أو أكثر من مجلّة ديزني- أو يكي ماوس لا أذكر ما اسمها-. أمّا المكتبة فكانت مملوءة بكتب دراسية قديمة لعمّي الذي درس بالجامعة الحكومية الوحيدة في سلطنة عُمان -ومازالت-، وتحوي على كتبٍ دينية وصحاحٍ دينية، كتاب ضخم أسمه "مقاتل من الصحراء" وعلى غلافه رجل وسيم، أميرٌ بإحدى الدول، كما تحتوي على روايات الرجل المستحيل، وروايات عبير التي لم أقرأ منها شيئاً، لربّما لأني اعتبرتها كالعورة لا يجوز الاطلاع عليها، كتباً أيضاً عن الأميرة ديانا الفاتنة، ولا أعلم حقيقة لماذا يوجد ذلك العدد من الكتب عنها، لربّما نتيجة كونها قضية أشغلت العالم، وأقصد بالقضية هي حادثة اغتيال الأميرة واتهام حبيبها ذي الأصل العربي.

أكثر من تأثرت بهم هو نزار قبّاني، أتذكّر عندما كُنت في احد السنوات الدراسية، الطلاب على كراسيّهم الخشبية والطاولات الخشبية التي تتحول أسطحها لحالة حربٍ بين مُزيل الحبر الأبيض، أو قلم التصحيح أيّاً كان اسمه، وعدّة أقلام، كان معلّم التربية الإسلامية والذّي كان يلقّب بـ "حمّود الخايس"، وان جال بك فضولك حول سبب التسمية لاحتمالات عدّة، فدعني أخبرك أنّ حمّود، أو حمد يعيش في بيئة قاسية قبلية وصحراوية، وبجانب عمله كمعلم تربية إسلامية -قبل ان يتحول الاسم لثقافة إسلامية بسبب ان التربية شيء مخيف و التعليم لا يوفّر الّا مجرد ثقافة عامّة- فقد كان حمّود يعمل في عزبة خاصّة بعائلته، و العزبة هي مكانٌ لتربية المواشي و الجمال، لذلك يأتي بسيارته "البيك أب" وهي محملة بـالـ "المريمبو" و "المسيبلو" و "القت" ، أستطيع ان أقول لك أن المريمبو هو نبات الذرة، و القت -ليس القات- هو البرسيم، وأمّا المسيبلو فلا أعلم تسميته العامّة، ولكنه متعارف محلياً بهذا الإسم، ولا يكتفي حمّود بذلك، كوني أنا عشت تجربة مشابهة للتي يعيشها حمّود فأنا أعلم بأنه يجب اطعام الحيوانات فالصباح الباكر، وهذا ما كان يفعله، فيأتي محملاً برائحة الأسمدة، ونعاله مملوءة بالروث، ونظراً لطبيعته فحمّود ورغم ما يحمله الاسم من دلع ولطافة، فقد كان ذو شخصية خشنة، في أحد الدروس تكلّم عن المرأة و المخاطر التي تحيط بها، وما كان منّي الّا أن رفعت يدي بحماس "أنا أستاذ .. أنا أستاذ" مقاطعاً ايّاه، وما أن سمح لي بالحديث حتّى قلت له بأني قرأت يوماً عبارة جميلة لنزار قبّاني، يقول فيها: "المرأة كالكتاب، كيف يقرأ الرجل كتاباً مُغلقاً؟"، انتاب الفصل حالة سكون بعدها، ثم أكمل حمّود كلامه وكأن ليس لمداخلتي معنى، كُنت في وقتها مستغرباً عدم التعقيب على كلامي، وانا الّذي عندما قرأت تلك العبارة في ديوان نزار، دهشت بل كررتها مراراً ولا زلت احتفظ بها في عقلي للآن، فكيف يقرأ الرجل كتاباً مغلقاً؟ كيف يضرّ الرجل امرأته حافظت على نفسها؟

امّا الآن فأنا أشعر بأنّي محظوظ لعدم حصولي على تجاوبٍ منه، فلا أعتقد ان هُناك معلم تربية إسلامية كمثل حمّود يقوم بقراءة دواوين واشعار نزار قبّاني التي تتكلم عن الليالي الحارة والنهود المتمردة -إحدى قصائده تحمل هذا الاسم- فهو عُرف بشاعر المرأة، ولذا فأنّي اكاد أجزم بأن الثقافة المرتبطة بنزار في عقول من هم في مكان حمّود هي ان نزار رجلٌ فاسق متمرد، فما بالك بذكر اقتباس لأحد قصائده في ذلك الموقف؟

والشاهد ان هذه العبارة ليست الوحيدة التي ما زلت محتفظاً بها، هناك عبارة مازالت ترن في رأسي كثيراً، ومع كل يوم بتّ أشعر بمدى حقيقتها. سابقاً كُنت أشعر بان الكلمات ليست في عددها او جماليتها، بل في مدرى المشاعر التي توضع بها، فكلمة شُكراً ربّما تكون سطحية في أحيان، وأحيان أبلغ من أن تُوصف، لذلك حينما يكتب الشاعر من قلبه، وعندما يكتب المدوّن من خلال تجربته، دائماً ما تكون عباراته لها وقع فالقلب، وهذا ما أحسسته عندما وصف نزار في احدى دواوينه ان الكتابة عمل اجرامي، وهذا ما أحسسته، وهذا ما أحسه أيضاً.

[2]

الكتابة عمل أجرامي

الكلمات قد تجلب لك المال، قد تجلب لك الحب، الكتابة قد تجعلك خالداً في القلوب يا امرؤ القيس وشكسبير، قد تجعلك تعيش في قصرٍ من القُصور، او تعيش وراء قضبان حديدية بعد ان يتم ضربك واهانة كرامتك وتصبح علكة يمضغها الناس.

الكتابة قد تجعلك كاتباً ذو مكانة وسلطة أذا ما توافقت مع رغبات منهم في علّية القوم، وقد تجعلك متمرداً دنيئاً خسيساً موالياً لقوى غريبة تنشر ايديها في عمق دولتك، وكأنّ دولتك مكونة من قِطع دومينو انهيارها بين يديك، فتجد اللوم مِن قِبل أبناء جلدتك، قبل ان تأتي من الملائكة التي تحكمك، فتصبح شيطاناً ملعوناً يسعى للإطاحة بالبشر والملائكة، وبالطبع الملائكة لا خوف عليهم، فهم معصومون من أي خطأ بشري.

عندما نقول بأن الكتابة عمل اجرامي، فنحن بذلك نقصد ما يتعارض مع حكوماتنا، حيث يتم مصادرة الفكر، لعدّة حجج منها كونه يسبب في زعزعة الأمن، في اعتراف واضح وصريح بأن كتابة الحقيقة ستسبب في نسف ذلك البناء الهش المبني أساساً على الجهل.

تطال الاعتقالات الشنيعة كل من يتجرأ على قول ولو جزء من الحقيقة في أسلوب دكتاتوري بيروقراطي واضح، وهذا ما شهده الشارع في بلدي قبل مدّة قصيرة، حينما أعتقل شخص قام بالكتابة عن حدث تاريخي بطريقة مختلفة عمّا تزرعه حكومتنا في عقول المساكين، سبقه اعتقالات على مدى واسع، طالت الكثير من الكتّاب والفاعلين من المجتمع.

لا أمت بصلة للسياسة، ولكنّي بت اعلم واوقن بشكل واضح في مدى صدق نزار المنفي الذي قال بأن الكتابة عمل اجرامي، وأؤمن كذلك بان الكاتب أذا غرس في عقله الخوف، فبذلك يجرّد كلامه من أي مصداقية وينسلخ من الكتابة لمجرد ثرثرة هاوٍ يتحدث عن أمور تعجب غيره، وهو مالم يفعله نزار المنفي.

[3]

نزار الذي كتب بأن الكتابة عمل اجرامي، نسي بأن القراءة عمل اجرامي أيضاً ولكن بشكل مختلف عن الكتابة.

فحينما تكون الكتابة جريمة في نظر الحكومة والدولة وبعضاً من اتباعها ومن انغسلت أدمغتهم، فأن القراءة هي جريمة بحق أنفسنا، فأصبحت المعرفة مؤلمة لنا، ومع صمتنا كون الكتابة اجرام فنحن نغلق على قنبلة موقتة في صدورنا، تنفجر كل يوم بدون أن نصدر صوت تأوهٍ واحد.

فحينما نبدأ بالقراءة، ونطلّع لمدى تقدم البشرية واستخدامها لعقلها في تطويع الأرض والسماء، لنأتي ونقرأ عن جرائم بلداننا بحق شعوبها تنتابنا قشعريرة بأنّا نعيش في كوكب واحد مع تلك الدول، ولكن حقاً فأنا أقولها بأن هذا ليس كل ما في الأمر.

الأمر هو حينما يأتي اليوم الوطني لدولة ما، فنرى كيف يتغنون بالدولة ومنجزاتها، وكأنهم لا يعيشون معك في نفس بلدك، حينما تشعر بأنّ خنجراً قد غرز في قلبك.

قبل أيّام كان العيد الوطني في بلدي، فتسارع الجميع لأطلاق التهاني للدولة، و المباركة للحاكم بأسلوب غريب عجيب ومحبة غير معقولة، فلطالما سألت عمّا يدعونا لتسميته يوم النهضة المباركة، وماهي المنجزات التي تجعل منه نهضة، لأجد الجواب بأنّي ناكر للجميل، وأن دولتنا العزيزة كانت قبل تولي الحاكم الجديد لها عبارة عن صحارٍ قاحلة، وأننا نتمتع بالأمن و الأمان، و... فقط! رغم أنّه على حدّ علمي فإنّه في ذلك العام الذي استقبلت الدولة حاكمها الجديد، كانت جميع الدول العربية عبارة عن صحارٍ، بل وأنه عندما نقول بأن دولتنا عبارة عن صحراء في تلك الفترة، فأنه بسبب أسلوب الحكم الملكي السابق، والذي للأسف ظل ثابتاً بحكم كون بلداننا العربي هي أراضي يتملكها الملائكة الذين لا يجوز نقدهم، وفي تلك الفترة أيضاً كان النفط في بدايات اكتشافه في شبه الجزيرة المسكينة، فلا يجوز لنا المقارنة بين اليوم والأمس، وأمّا بالنسبة للأمن فأنا اعلم ان الرسول قد دعى لأهلها بالخير و الأمن، وأنه صلوات الله عليه وسلامه قد اخبر احد الصحابة بأنه لو أتى أهل عُمان ما سبّوه وما شتموه، وفيها دلالة على ان الأمن و الأمان بشكل عام هو امر موجودٌ بين أهلها منذ زمن طويل ولا علاقة به للحكومة او الحاكم، بل أنّه حين نرى حملة الاعتقالات العشوائية نتأكد حينها اننا في امن مزيّف، كما ان التكتم الإعلامي موجود وبشدّة، فأحد المشايخ المصلحين فالمجتمع -والفاعلين حقّاً- حينما قام بذكر بعض من جوانب شعبنا المظلمة مثل اغتصاب اب لأبنته وام وابنها مما يقشعر له البدن وترفضه كل الشرائع و الدول، فأنّه ورغم ذِكره لهذه الحوادث بغرض الترهيب و التحذير و الإصلاح، فقد استدعاه الأمن وامروه بالكتمان على أي خبر مثل هذا، ورغم عدم التأكيد التام لموضوع استجوابه من جانب الأمن الداخلي، ولكن يبقى التكتم الشديد بغرض اقناع الشعب بأن الأمن و الأمان موجود دام منحصراً على عدم وجود قتل او اغتصاب، وبالرغم من أن هذا التعريف للأمن و الأمان يعتبر قاصراً جداً ولم يتطرق للحقوق الأساسية للإنسان -ومن بينها حرية التعبير- فحتّى هذا التعريف القاصر لا ينطبق على بلدنا في ظل وجود الجرائم المتكتم عليها، ويكفي ان تجلس بين بعض الناس وتستمع لقضاياهم لتعلم كيف الشعب مختنق بالظلم.

ومن بعد هذا لم أجد سبباً حتّى يتم تسميته بيوم النهضة، ومثل هذا اليوم موجود في معظم بلداننا العربية والخليجية خصوصاً منها.

[4]

رغم كل ما قلته فليس موضوعي هنا الحديث عن الأحوال في بلدي او في أي بلد عربي، فأي شخص عاقل يعرف احوالنا حق المعرفة.

وانما لأكتب بعضاً من أحلام يقظتي لمعالجة بعض القضايا الشائكة، وابداء رأيي بها بأسلوب مختلف ونظرة مختلفة، في محاولة لرضاء نفسي، فالكتمان أمر صعب جدّاً، خاصة مع الأخبار المأساوية التي نستمع لها بين حين وآخر بشكل متكرر.

ولكن لن يشمل رأيي كل القضايا الشائكة بكل تفاصيلها وحذافيرها، بل هي لمحات فقط، لهذا -مع خالص اعتذاري لك- ان كُنت تتوقع أن أفند كل قضية مثل كاتب محترف بعدما قرأت أكثر من 1500 كلمة فالمقدمة السابقة، فأنت مخطئ باعتقادك، بعض الأمور هي خارجة عن نطاق معرفتي.

وقبل الحديث عن هذه القضايا، فانه يجب ان نعلم بأن علم الانسان تراكمي، فهو يعتمد على ما سبقه من علوم يستخدمها ويطور منها ويطوّعها ليطور من نفسه وبيئته، وفي القرن الواحد والعشرين ومع سهولة الوصول للمعلومات، فقد أصبحت الدول هي كُتب تجارب يجب علينا دراسة كافة خبراتهم وما توصلوا اليه، وماهي التغييرات التي تحدث لهم، خاصة مع دول العالم الأول والثاني بكوننا دولاً فالعالم الثالث.

قمت بتقسيم الموضوع نظراً لتنوعه وطوله -أكثر من 4000 كلمة.

[5]

التعليم.. هُناك مُشكلة ما، ولكن أين هيَ؟

[6]

الإسلام دين .. وحياة .. ونظام يسير به الناس.

[7]

الطاقة ثمّ الطاقة ثمّ الطاقة، عندما نستخدم بيئتنا لصالحنا.

+

[8]

ومن المياه، كلّ شيء حي.

[9]

العشوائية، وجودة الخدمات.


ثرثرة كثيرة ليوم واحد، سأختفي حالياً^^.