أيها الإنسان،

هل تأملت يومًا كيف تُباع الأوطان؟ ليس بالبنادق ولا بالمؤامرات فحسب، بل تُباع حين يصمت الشرفاء، ويغفل العقلاء، ويتكاسل الجاهلون عن التعلّم. في لحظة اللامبالاة تلك، يُكتب على الوطن أن يكون الضحية، ويُوقَّع العقد بين الجبن والخذلان.

الجبناء لا يحررون وطنًا، لأن من يخاف الحقيقة يعجز عن حملها. والساكت عن الحق ليس محايدًا، بل شاهدٌ على الجريمة. والجهل ليس عذرًا، بل مشاركة في الخطيئة، لأن من لم يتعلم كيف يُدافع عن وطنه، علّم أعداءه كيف يستعبدونه.

الحرية، يا صديقي، ليست شيئًا يُشترى أو يُوزّع.

ليست موجودة في الأسواق ولا في الدساتير المكتوبة بالحبر، بل في الأعماق — في لحظةٍ داخليةٍ يُقرر فيها الإنسان أن يكون سيد نفسه لا تابعًا لغيره. الكرامة هي الابنة الشرعية لتلك الحرية، والعبودية — مهما تزيّنت بالشعارات — تظل قيدًا في عنق الروح.

الصراع الحقيقي إذًا ليس بين الشعوب وجيوشها، بل بين الحر والعبد داخل الإنسان نفسه.

كم من إنسانٍ يظنّ أنه حرٌّ وهو في قفصٍ ذهنيٍّ صنعه بيده! يعبد المال وهو يظن أنه يسعى للرزق، ويخضع للطغيان باسم النظام، ويخاف التغيير باسم الحكمة.

هنا جوهر المأساة: أن نُحبّ قيودنا ونخاف الانعتاق منها.

قرأنا يومًا عن “العبودية المختارة” — ذلك الميل الخفي إلى أن تبقى تحت سلطة من يقرر عنك لأن الحرية متعبة، ولأن الخيار مسؤولية. كثيرون يختارون الراحة على الكرامة، ويحسبون أن العبودية أمان، مع أنها موتٌ بطيء للعقل والروح.

هم يورّثون هذا الخضوع لأبنائهم كما يورّثون أسماءهم، فلا يرون الفناء إلا حين لا يبقى فيهم شيء يستحق الحياة.

أما “المواطنة”، فهي ليست انتماءً جغرافيًا ولا رقمًا في السجلات، بل وعيٌ ومسؤوليةٌ وضمير. أن تكون وطنيًّا يعني أن تفهم أن الوطن حقٌّ لك، وواجبٌ عليك.

أن تذود عن كرامته بالعلم لا بالجهل، بالوعي لا بالضجيج، بالعمل لا بالشعارات.

أن ترى في كل بيتٍ بيتك، وفي كل شارعٍ طريقك، وفي كل جرحٍ في جسد الوطن ألمًا في صدرك.

فمن يبيع وطنه، يبيع ذاته، ومن يصمت عن خيانته، يوقّع على موته.

ومن يجهل دوره، يسلّم زمام أمّته للغرباء، فيصير عبئًا على التاريخ لا فاعلًا فيه.

يا أصحاب العقول،

الوطن ليس فكرةً تُقال بل مسؤولية تُمارس.

هو امتحان دائم للضمير: هل سنبقى أمةً تبحث عن “سيّدٍ رحيم” أم سنكون أمةً تصنع سيادتها؟

هل نختار الطريق الصعب — طريق الحرية والمسؤولية — أم نرتاح في ظلال الطاعة العمياء التي تقتل الروح باسم الاستقرار؟

الحرية قرار، والقرار مسؤولية، والمسؤولية ثمن الكرامة.

فلنكن من أولئك الذين يحملون الوعي لا الحقد، العزم لا الصراخ، والبصيرة لا الأوهام.

هكذا فقط تُبنى الأوطان، وهكذا فقط نحمي الإنسان من السقوط في عبوديته المختارة.

"إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم"

وتغيير النفس يبدأ من لحظة صدقٍ مع الذات:

هل أنا حرٌّ فعلاً؟ أم عبدٌ يختبئ في ثوب الحرية؟

والسلام على من آمن أن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتَزع من داخل الإنسان.