عجينة السكر
إذا غزت الصراصير أحد البيوت، فإن أهل هذا البيت يصنعون عجينة قوامها من السكر، ويدسون فيها مبيدًا للحشرات، فإذا جاء صرصور ليأكل منها كانت هذه هي وجبته الأخيرة، إلا أن الصراصير لا تكون دائما بهذا الغباء، فرائحة الصرصور الميت في مكان العجينة، يجعل باقي أقرانه يربطون بشكل مباشر بين الأكل من هذه العجينة والموت، فيتجنبونها تمامًا، ويكون هذا الارتباط الشرطي السطحي المباشر سبباً في نجاتهم.
خطف أنيس الجليس
لكن هل يمكن أن يظهر هذا الربط المباشر المبني على الحذر بدون وجود دليل حقيقي على الخطر في أفعال الانسان أيضًا؟ تحدثنا في هذا الشأن قصة من كتاب ألف ليلة وليلة، تحكي عن عروس اسمها أنيس الجليس راح أبوها يعرضها على التجار ليتزوجها أحدهم، حتى اعجبها شابٌ اسمه على شار واقف وسط التجار بهيئة كالقمر، فرفضت شيخًا طاعنًا في السن عرض عليها ثلاثة اضعاف مهرها، وأعطت الشاب من مالها ليتمكن من دفع مهرها وتأثيث حجرته، بسبب فقره وحاجاته الشديدة، رغم كونه من أبناء التجّار، وصارت تحيك الفُرش ليبيعها هو في السوق ويكسب منها قوتهما.
حتى تحايل عليه نصاب إلى أن دخل بيته وخدره، وعاد إلى أخيه الشيخ المرفوض من أنيس بمفتاح البيت، فقام الشيخ بتأجير نفر خطفوا أنيس وعذبها الشيخ في داره أيامًا، إلى أن تمكن على شار من التعرف على سيدة دلالة تمكنت بدورها من معرفة مكان زوجته، واتفقت معه أن يذهب عند مسطبة قصر الشيخ يتنظرها حتى منتصف الليل، وهي سوف تقفز له من الشرفة.
وحين جاء الموعد انتظر على شار أن ينتصف الليل عند مسطبة القصر حتى غلبه النعاس ونام، وحينها ظهر رجل من الشُطّار سرق عمامة على شار، ولما نزلت أنيس من الشرفة التقطها اللص وهرب بها خارج المدينة، واودعها في كهف في عهدة امه، حتى يعود إلى جماعته ويخبرهم بالغنيمة.
حكم المدينة
ولكنها احتالت على الأم وظلت تدللها حتى نامت، وولت انيس مدبرة بما كان من غنيمة السارق من فرس ولباس فارس تنكرت فيه وصرة من الذهب، فظلت تائهة بين البوادي تهيم على وجهها، حتى وجدت كتيبة من الجند تقف بمدخل مدينة فذهبت تسأل عن شأنهم.
فلما رأوها ظنوها فارسًا من الفرسان وفرحوا بها، ولما سألتهم عن سبب هذه الفرحة، قالو لها بأن ملكم قد مات وليس له وريث، وحينها تنص أعرافهم على أن يقف الجند عند بوابة المدينة، ومع أول غريب يمر عليهم يكون هو المختار، وقد فرحوا لأن هذا الغريب كان فارسًا عظيم الشأن وليس شخصًا وضيعًا، فاحتالت عليهم وأكملت تمثيل دور الفارس، وخشنت صوتها وصرفت من صرة الذهب التي معها على فقراء المدينة، وعززت ملكها بين الساسة والقادة، حتى استقر لها الملك وصار الأمر أمرها.
صحن الأرز المحلى
وحين حنت لزوجها قررت أن تفتح مائدة رحمـٰن غرة كل شهر عربي، في قاعة أمرت ببنائها أمام قصرها، يدعى إليها كل سكان المدينة، يأكلون حتى يشبعون ثم ينصرفون، وداومت على هذا سنة كاملة وهي تدعوا الله أن يكتب لها لقاء زوجها.
ومع دخول أول شهر في السنة الجديدة حضر إلى المائدة رجل غريب، وعندما راقبته أنيس وهي في زي الملك عرفت أنه النصاب أخو الشيخ الذي احتال على زوجها وفرق بينهما، فجلس المحتال على المائدة واشتهي صحن ارز ملحى بعيدًا عنه، فزاحم الناس حتى وصل إلى الطبق وقربه منه وبدأ يكور الأرز بيده ويأكله، وحينها لم تتحمل أنيس أن يأكل هذا المجرم اللقمة الثانية على مائدتها، وأمرت الحرس أن يأتوا به على الفور قبل أن يضعها في فمه.
فقبضوا عليه وجعلوه يجثو أمامها، فسألته عن اسمه وحرفته وحاجته، فكذب عليها، ولأجل كشف أمره دون أن يكشف أمرها أمرت بسطل رمل وقلم من نحاس، وبدأت ترسم على الرمل وتتأمل ما رسمت ثم تضرب الرمل وتصرخ فيه: كاذب أنت اسمك فلان وصنعتك كذا فاصدقني القول وإلا ضربت عنقك، وهنا اعترف النصاب بصحة ما قالت، فأمرت به فقطعت رأسه في الحال.
وفي مائدة الشهر التالي حضر إلى المائدة اللص الذي خطف أنيس من زوجها يوم هربها من الشيخ، فلم يجد موضعاً إلا عند صحن الأرز المحلى، فجلس وتناول لقمة، رغم تحذيرات كل من حوله، وقبل أن يبدأ في الثانية كانت أنيس في ثوب الملك قد لاحظت وجوده وأمرت بإحضاره، فأتى به الجند واجثوه أمامها، فسألته فكذب عليها فضربت الرمل وقررته بأنه لص محتال فأقر وأمرت به فقطعت رأسه أيضاً.
وفي مائدة الشهر الثالث لم يجلس أحد حول صحن الأرز المحلى رغم أن المكان يكفي لبضعة من البشر، وحينها دخل عليهم شيخ كبير يهرول، ووجد موضع طبق الارز وجلس وبدأ يأكل، وقبل اللقمة الثانية أمرت به أنيس فمثل أمامها، وكذب عليها فضربت الرمل وأقرته فأقر وأمرت به فعُذب بالجلد ثم قُطعت رأسه.
الارتباط الشرطي
وهنا لدينا وقفة مهمة فبالرغم من فهمنا نحن القراء لسبب انتقام انيس التي في صورة الملك الآن، من هؤلاء الثلاثة، إلا أن هناك ارتباطًا شريطًا سطحيًا قد تسببت فيه أنيس دون أن تقصد، وهو أن كل من يأكل من صحن الأرز المحلى سوف يتم إعدامه، وفي الرواية الأصلية للقصة وردت هذه الفكرة على لسان شعب المدينة أنفسهم، لدرجة أنهم كانوا يحوقلون عندما يتجرأ أحد ويجلس ليأكل من هذا الطبق الذي اعتبروه ملعونا، وتشائموا منه، حتى أن بعضهم حرم الأرز المحلى على نفسه لبقية حياته.
وهنا نفهم أن هذا الربط غير المنطقي، يغذيه الخوف والحذر في المقام الأول، وهو عبارة عن ربط مقدمة بنتيجة بدون وجود اسباب منطقية تؤدي إلى هذه النتيجة من الأساس، فالذي يفكر في الارتباط الشرطي لا يبحث في عمق الموضوع، إنما يحتكم إلى الجهل ويبني الارتباط بشكل مباشر دون دليل أو سبب أو برهان، فبالرغم من أن إعدام ثلاثة أشخاص بعد أكل لقمة من طبق الأرز المحلى كان صدفة قدرية، إلا أن الجماهير المتفرجة قررت أن المشكلة في الطبق نفسه وليس في الثلاثة المعدومين، لكن هل سيتغير رأيهم إن تم كسر هذا النمط؟ فلنكمل قصتنا لنعلم:
كسر النمط
وبعد انتقام أنيس من المجرمين الثلاثة دعت الله أن يكتب لها لقاء زوجها، ومع دخول الشهر الاخير مدت المائدة كالعادة، وظل مكان الأرز المحلى فارغًا عالعادة، لكن ضيفًا دخل إلى المائدة وجلس عند طبق الأرز وبدأ يأكل، وقد تعلقت جميع أعين الجالسين به، ولما نظرت إليه أنيس عرفت أنه زوجها على شار، ففرحت وكتمت صرخة فرحها حتى لا يُفضح أمرها، وتركته يأكل حتى يشبع، وظل الناس مذهولين حين ابتلع اللقمة الثانية واتبعها حتى شبع، فأرسلت إليه أنيس خدمها ليطلبوا إليه المثول أمامها، فسألته فقال لها الحق وضربت الرمل لتقر كلامه وطلبت منه أن يزورها في جناح قصرها، وحين تعرف عليها على شار طار فرحًا وعادا معًا إلى بيتهما وعينت مكانها نائبًا عنها يحكم المدينة.
الشاهد في القصة أنه لما أكل على شار اللقمة الثانية، كانت هذه لحظة فارقة لسكان المدينة، لأنه في تلك اللحظة انكسر أمامهم عُرف اعتادوا عليه منذ شهور، وحينها انقسمت آراؤهم: بين من أشفق على الفتى الذي ينتظره مصير مؤسف، رافضًا التخلي عن الترابط الشرطي في ذهنه، منكرًا لما تراه عينيه، وبين من شك في الأمر وظن بأن هذا الشاب سينجوا بل إنه سوف يكرم.
عدم فك الارتباط
إلا أن العجيب فعلًا هو أن أحدًا لم يشك في النمط نفسه، بل اعتبروا الفتى استثناءًا فقط من القاعدة، أي أن صحن الارز المحلى ما زال مرتبطًا في اذهانهم بالإعدام، لكنهم شكوا فقط في أن حُسن خلق هذا الشاب هو ما نجاه، وهنا تقاطع أهل القرية مع الصراصير في طريقة التفكير، فجميع سكان أهل المدينة كانوا يتجنبون الأرز المحلى، رغم أنه لم يتم إعدام أحد منهم، بل كان الثلاثة الذين اعدموا غرباء، كذلك فعلت الصراصير مع عجينة السكر بتحنبها بعد موت صرصور جوارها.
وهذا الربط غير المنطقي طبيعي في الحيوان الذي لا يفقه من الحياة إلا ما فطره الله عليه فيها، لكنه مستهجن ومستغرب من الانسان الذي ميزه الله تبارك وتعالى بالعقل والتفكير، فكيف ينخدع الإنسان بخدعة يستخدمها الحيوان لينقذ نفسه؟
الارتباط الشرطي وغريزة البقاء
والإجابة كانت في الشيء المشترك بين الحيوان والانسان، ألا وهي غريزة البقاء التي تجبره على تجنب مواضع الخطر، حتى إن كان لا يفهم موطن الخطر فيها تحديدًا، فعند تفعيل هذه الغريزة لا مجال للتفكير، ويبحث الدماغ عن شيء واضح يمثل الخطر ليتجنبه أو يتخلص منه، وهو في هذا الحالة عجينة السكر للصراصير، وصحن الأرز المحلى لأهل المدينة، فلا مكان مع هذه الغريزة للتفكير والتأمل والتحليل والبحث عن الاسباب.
حيث بنيت هذه الاستجابة الطبيعية في أجسامنا على مبدأ الهرب أو القتال، فإن كان موضع الخطر لا يحدث إلا بالاحتكاك معه، يختار الدماغ تجنب هذا الاحتكاك قدر الإمكان، مثلما فعل أهل القرية حين امتنعوا عن الجلوس حتى جوار الصحن الذي أكل منه المرحومون الثلاثة، ومظاهر جهل أهل القرية واضحة في القصة، إذ أنهم لم يشكوا لحظة في تنكر أنيس ولا في موهبتها في ضرب الرمل، وصدّقوا كل ذلك بدون تفكير، وقبل ذلك كله في طريقة اختيارهم لملكهم الجديد التي قامت على الصدفة.
معضلة الارتباط الشرطي
وبهذا نفهم أن هذه الغريزة قد تكون مفيدة في المواقف البسيطة مثل تجنب مواطن الخطر الواضحة، لكن لماذا يجبرنا دماغنا على الربط الشرطي غير المنطقي في امور ليس فيها أي خطر أحيانًا؟ والدليل على ذلك جاء في قصة سيدنا داود التي وردت في القرآن في قوله تعالى:
{وَهَلۡ أَتَـٰكَ نَبَؤُا۟ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُوا۟ ٱلۡمِحۡرَابَ (٢١) إِذۡ دَخَلُوا۟ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُوا۟ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضࣲ فَٱحۡكُم بَیۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَاۤ إِلَىٰ سَوَاۤءِ ٱلصِّرَ ٰطِ (٢٢) إِنَّ هَـٰذَاۤ أَخِی لَهُۥ تِسۡعࣱ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةࣰ وَلِیَ نَعۡجَةࣱ وَ ٰحِدَةࣱ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِیهَا وَعَزَّنِی فِی ٱلۡخِطَابِ (٢٣) قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلۡخُلَطَاۤءِ لَیَبۡغِی بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَقَلِیلࣱ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّ رَاكِعࣰا وَأَنَابَ (٢٤)} [سُورَةُ صٓ: ٢١-٢٤].
المشكلة هنا أنه لا دخل لغريزة البقاء في هذا الارتباط الشرطي، فسيدنا داود - عليه السلام - لم يكن في خطر، إلا أنه تسرع في ربط مقدمة بنتيجة بدون سبب منطقي، فحكم ببغي صاحب الغنم الأكثر على أخيه دون أن يفهم منه أو يسأله، وعاتبه الله تبارك وتعالى على هذا، فهل هذا يعني ان هناك محفزات أخرى لهذا الارتباط الشرطي غير غريزة البقاء؟
وللإجابة على هذا السؤال يجب علينا أن نفهم أن الارتباط الشرطي عبارة عن طريقة بدائية في التفكير لها أغراض متعددة، مثل دعم البقاء والبحث عن الطعام والمأوى وتجربة الأشياء الجديدة، وهي في مهد البشرية علمتنا أن لمس النار مؤلمٌ بينما البقاء بقربها يبعث الدفئ، وهذا تم بتجربة بنيت على ارتباطات شرطية في الأساس.
الاستخدام المحدود
اذا فهي أداة عقلية أولية مهمة، نحتاج إليها في المواقف البسيطة التي لا تتطلب عمقًا في التفكير بقدر ما تتطلب سرعة في اتخاذ القرار، لكن لا يجوز أن تكون نهجا لنا في التفكير بشكل عام، ويُعتبر عتاب الله تبارك وتعالى لسيدنا داود - عليه السلام - عليها نهيًا مبطنًا عنها، وحثًا على الصبر والتأمل والاستماع من كل الأطراف والسؤال والتحقق قبل إطلاق الأحكام.
وكمثال توضيحي: اذا أكلت فاكهة فظهرت عليك أعراض حساسية، فقررت الامنتاع عن أكل هذه الفاكهة مرة أخرى، فقد أنقذ الارتباط الشرطي حياتك مؤقتًا، لكن هذا لا يعني ألا تذهب للطبيب لعمل تحاليل دقيقة وفهم الأسباب الحقيقية لهذه الحساسية، وأن مصدرها كان الفاكهة فعلًا، وليس سببا آخر لم تضعه في حسبانك حين اتهمت الفاكهة.
والآن السؤال لك أنت: هل ترى أن ظاهرة الارتباط الشرطي موجودة في حياتنا اليومية، وهل مازلنا متأثرين بها في ثقافتنا أم أننا تجاوزناها منذ عقود؟
التعليقات