التاريخ يعلمنا أن كل إمبراطورية في الماضي كانت تحتاج إلى الجيوش والسفن والاحتلال المباشر للسيطرة على الشعوب، منذ الإمبراطوريات القديمة الرومانية والفارسية، وصولًا إلى الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس، فقد كانت ترسل جنودها إلى الهند وأفريقيا، وكذلك الفرنسيون احتلوا الجزائر وشمال أفريقيا لعشرات السنين، وكذلك إيطاليا. لكن أمريكا فعلت شيئًا مختلفًا.

لم تحتل أمريكا دولًا كثيرة مثل إنجلترا وفرنسا، لكنها استخدمت طريقة جديدة للسيطرة، طريقة ذكية ورخيصة نسبيًا. أمريكا اليوم تملك قواعد عسكرية في عشرات الدول حول العالم، لكنها تقول إنها موجودة "لحمايتهم"، وليس لاحتلالهم. كما أنها لا تسمي هذه الدول مستعمرات، بل تسميهم "حلفاء".

في اليابان مثلًا، بعد أن قصفت أمريكا طوكيو بالقنابل الحارقة وقتلت أكثر من 100 ألف، وكذلك قصفت مدينتي هيروشيما وناجازاكي في الحرب العالمية الثانية وقتلت أكثر من 200 ألف شخص، توقّع كثيرون أن تكره اليابان أمريكا إلى الأبد. لكن ما حدث أن اليابان أصبحت تحت الوصاية الأمريكية، بل تحولت إلى واحدة من أقرب حلفاء أمريكا في آسيا، ويوجد فيها قواعد أمريكية حتى اليوم.

ما الذي حصل؟ كيف استطاعت أمريكا تغيير الثقافة والتراث الياباني العتيق (الساموراي، والهاراكيري، والكاميكاز الجوي الياباني... إلخ)؟

أمريكا قدّمت نفسها لليابان كمنقذ وبديل للاحتلال السوفيتي التقليدي، أعادت بناء الاقتصاد الياباني وساعدته على الوقوف مرة أخرى، لكنها في نفس الوقت لم تسمح لليابان بامتلاك جيش قوي، ولا بحرية قرار سياسي كاملة. يعني أن أمريكا أعطت اليابان حرية من الخارج، لكنها من الداخل بقيت هي المتحكمة.

نفس الشيء تفعله أمريكا مع أوروبا من خلال الناتو. أمريكا تقول إنها تحمي أوروبا، لكنها في الحقيقة تمنع أوروبا من أن تمتلك قوة دفاعية مستقلة عنها. هي تقود الناتو وتفرض قراراته، وتطلب من الأوروبيين أن يدفعوا مقابل "الحماية". وهذا يتطلب دائمًا وجود العدو التقليدي المتربص (السوفييت، ثم أصبح روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي) حتى يظل الاحتياج للحماية قائمًا.

في الشرق الأوسط، توجد قواعد أمريكية في الخليج، في قطر والبحرين والكويت. تقول أمريكا إنها تحمي هذه الدول من إيران أو من الإرهاب، لكن في الحقيقة، هذه القواعد تعني أن أمريكا يمكن أن تتدخل وقت ما تشاء، ويمكن أن تضغط على الحكومات إذا لم تعجبها قراراتهم. (فإن لم يكن هناك عدو، إذًا يجب اصطناع العدو لضمان استمرار طلب الحماية).

أمريكا تعلمت من التاريخ، وقررت ألا تُعيد أخطاء الاستعمار القديم الذي كان مكلفًا جدًا. فبدلًا من أن ترسل الجنود وتحتل الأرض، ترسل الأفلام، التكنولوجيا، المساعدات، والدولارات. وبدلًا من أن ترفع علمها، ترفع شعارات مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعاون.

لكن في النهاية، أمريكا هي من تتحكم. هي من تضع القوانين العالمية، وهي من تفرض العقوبات، وهي من تقرر من هو "الصديق" ومن هو "العدو"، وفق نظرية العصا والجزرة.

هذا هو الاستعمار الحديث: احتلال ناعم، لكن فعّال. لا تحتاج فيه أمريكا إلى السلاح أو القتال دائمًا، لأنها تملك المال، والإعلام، والتكنولوجيا، والتفوق العسكري الجاهز إن لزم الأمر لتأديب من يرفض الانصياع، وكله تحت الشعارات البراقة وعبارات "التحالف" و"المصالح المشتركة".

أمريكا تريد أن تحكم العالم، لكن بطريقة جديدة: أن تحكم دون أن تتحمل تكلفة الاحتلال.

وهنا يجب أن نسأل أنفسنا:

هل نعيش اليوم في عالم حر؟ أم أن الحرية التي نعيشها، هي جزء من خطة أكبر للسيطرة؟