صُوَرٌ خَفِيَّةٌ

بقلم: عبدو بليبل

ما نَحنُ إلَّا صُورَةٌ أَثِيرِيَّةٌ لِحَقِيقَةٍ تُحَدِّقُ بِنَا، فَلَا نُدْرِكُ وُجُودَهَا، لِأَنَّنَا نَسْبَحُ فَقَطْ عِندَ شَوَاطِئِهَا البَعِيدَةِ.

وَمَا نَحنُ إِلَّا ظِلٌّ يَسِيرُ خَلْفَ الأَصْلِ، نَقِفُ عِنْدَمَا يَقِفُ، وَنَمْشِي عِنْدَمَا يُومِئُ إِلَيْنَا بِذَلِكَ.

وَمَا أَعْمَالُنَا إِلَّا وَهْمٌ ظَاهِرٌ لِحَقِيقَةٍ مُتَخَفِّيَةٍ وَرَاءَ لُحُفِ الحَيَاةِ، الَّتِي لَا تَقُولُ كَلِمَةً قَطُّ، بَلْ تَهْمِسُ هَمْسًا مِنْ خِلَالِ عَنَاصِرِهَا المُتَوَاجِدَةِ حَوْلَنَا، وَبِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ.

الحَيَاةُ تُطِلُّ عِنْدَمَا تُرِيدُ، وَتَخْتَفِي كُلَّمَا هَبَّتْ عَاصِفَةٌ هَوْجَاءُ، لِتَخْتَبِئَ خَلْفَ سِتَارِ المَادَّةِ، وَتَبْتَسِمَ كُلَّمَا أَرَادَتِ الِابْتِسَامَ.

نَمُدُّ يَدًا حَدِيدِيَّةً لِنَلْمَسَ كُتَلَ أَجْزَائِهَا المُنْتَشِرَةِ بَيْنَنَا، لَكِنْ عَبَثًا نُحَاوِلُ، لِأَنَّنَا لَا نَلْمَسُ إِلَّا مُكَوِّنَاتِهَا الأَثِيرِيَّةَ، الَّتِي تَفِرُّ عُنْوَةً مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِنَا، وَتَتَنَاثَرُ فِي الفَضَاءِ.

الحَيَاةُ تُحِبُّ أَنْ تَبْقَى بَعِيدَةً عَنَّا، رَغْمَ أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِينَا، وَلَا نَكْتَشِفُ بُعْدَهَا، إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَمُدَّ المَوْتُ يَدَهُ السَّوْدَاءَ، لِيَأْخُذَنَا إِلَى أَعْمَاقِهِ القَاتِمَةِ، فَيَبْتَلِعَنَا كَحُوتٍ جَبَّارٍ، وَيَخْتَفِي مِثْلَ سِحْرٍ عَجِيبٍ.

المَوْتُ يَقْتَرِبُ عِنْدَمَا تَبْتَعِدُ الحَيَاةُ، وَالحَيَاةُ عِنْدَمَا تَبْتَعِدُ، تَهْزَأُ بِنَا وَتَضْحَكُ.

فَنَصْرُخُ وَلَا تَصْرُخُ، لِأَنَّهَا تَلْفِظُنَا مِنْ لُجَجِ أَعْمَاقِهَا، وَكَأَنَّنَا حِمْلٌ أَثْقَلَ وِزْرَهَا، مِثْلَ بَحْرٍ يَلْفِظُ بَقَايَاهُ المَرْفُوضَةَ عَلَى الشَّوَاطِئِ.

نَسِيرُ بِظِلِّهَا وَنَتَشَبَّثُ بِأَثْوَابِهَا مِثْلَ الأَطْفَالِ.

نَتَخَاصَمُ مَعَهَا وَنَخْتَلِفُ، لَكِنَّنَا نَتْبَعُهَا حَيْثُمَا تَذْهَبُ... لَا نَسْأَلُهَا إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ، وَمَاذَا تَفْعَلُ، بَلْ نَتَغَلْغَلُ بَيْنَ ضُلُوعِهَا حُبًّا لِأَضْوَائِهَا اللَّأْلَاءَةِ.

هِيَ هَادِئَةٌ، جَمِيلَةٌ، بَسِيطَةٌ.

تَرْمُقُنَا بِعَيْنٍ مِلْؤُهَا الحُبُّ وَالحَنَانُ.

تُعْطِينَا مِنْ قَلْبِهَا العَطْفَ وَالرَّحْمَةَ.

تُمْسِكُنَا بِيَدَيْهَا كَيْ لَا نَسْقُطَ، تَحْمِلُنَا وَتَضُمُّنَا إِلَى حِضْنِهَا الدَّافِئِ.

لَكِنْ عِنْدَمَا تَغْضَبُ وَتَثُورُ، تَدَعْنَا نَهْوِي بَيْنَ مَخَالِبِ المَوْتِ القَاتِلِ، الَّذِي يَلْتَهِمُنَا وَيَضُمُّنَا إِلَى جَوْفِهِ المُظْلِمِ.

نَصْرُخُ، نُنَادِيهَا، أَمَّا هِيَ؟ فَلَا تَلْتَفِتُ، بَلْ تَسِيرُ إِلَى الأَمَامِ، لِأَنَّهَا لَا تُرِيدُ أَنْ تَقِفَ... أَبَدًا.