لنكن متفقين على أمرٍ هو من الثوابت المنطقية، وهو: أنه ليس شرطًا أن يكون الأمر مستعمَلًا كثيرًا أو منتشرًا بين الناس أو أتى بمفعولٍ ما حتى نقول أو نحكم على أن هذا الأمر أو هذا الفعل صحيح. فكم من شخصٍ لا يُصلي وظاهره سعيد، فهل نستطيع أن نقول عن هذا الشخص وأمثاله إنه على صواب؟! بالتأكيد لا، هذا خطأ، حتى وإن بدا ظاهره عكس ذلك.

ويجب التنويه أن هذا المقال ليس موجَّهًا لأولئك المنغلقة عقولُهم، والذين يرفضون تغيير الثوابت التي تمّت برمجة عقولهم على أنها حقيقة، وما هي إلا سخافات لا تنطلي إلا على السُّذَّج. فكما نزعتُ من أدمغة الكثير أفكارًا خاطئة مكدَّسة في عقولهم، أنا هنا اليوم لأنزع لكم فكرة منتشرة في الأوساط العلمية والمجتمعية على أنها "حقيقة" و"علم"، بل وهناك من يدرُسه ويُدرّسه وما إلى ذلك، وهو ما يُعرف بـ**(لغة الجسد)**.

لن أخوض معكم في تاريخ هذا "العلم" الزائف، ولكن ما يهمّنا هنا هو الحقيقة الخفية وراء هذا العلم، وما هو منبعه الأساسي، حتى أُريكم مدى التحريف والتلاعب الذي يحدث بكم، ومدى الخبث وراء هذا "العلم" وكوارثه الخفية.

لا شك أن أغلبكم -أحبتي- قد قرأ عن "لغة الجسد" وكيف من خلالها يُحلَّل الإنسان الذي أمامك: هل هو خائف، قلق، لديه ثقة بالنفس، متوتر، أبلَه... وما إلى ذلك. ولكن، هل فكّر أحدُكم -ولو للحظة–: كيف بُنِي هذا الكلام؟ وعلى أي أساسٍ بُنِي أصلًا؟

هنا الجانب الذي غفل عنه الجميع؛ فأصل هذا "العلم" الزائف هو هبة ربانية من الله عزّ وجل تم تحريفها والتلاعب بها، وهي من جملة الهبات التي يمنّ بها على من يشاء من عباده، وهي التي لا يشوبها أو يعتريها الخطأ، وهي: الفِراسة.

هذه الهبة العظيمة التي يستطيع من وهبه الله إياها أن يعرف بواطن من أمامه من خِلْقته، ومن هنا تم تأسيس ما يُسمّى بلغة الجسد، ووُضِعت قواعد وأُسس لها تستطيع -كما يزعمون– من خلالها أن تعرف بواطن من أمامك من ظواهره وحركاته. ولا شك أن وضع مثل هذه القواعد من الأمور السخيفة جدًا، كما سأثبت لكم الآن.

ولنَفترض الآن أن أغلب الناس قرأوا هذه القواعد، وقام كلٌّ منهم بتطبيقها على نفسه، فهنا سيدخل هذا الشخص في مرحلةٍ سخيفة ومضحكة، وهي ما يُسمّى بـ**(التصنّع)**. وما أقبح التصنّع!

هنا لن يستطيع أحدٌ من دارسي ومحلّلي هذا "العلم" -وهو ما يُسمّى بلغة الجسد– أن يكشف زيف فِعله؛ لأنه ببساطة أظهر له ما يُريد أن يعرفه، لا ما يكمن داخله. وهنا تتجلّى هبة الله، وهي الفراسة الربانية، في معرفة وكشف زيف تصنّعه، حتى وإن أتقن تصنّعه بشكل احترافي، فلن ينطلي هذا على من وهبهم الله هذه الهبة.

ولا أعلم كيف لعاقلٍ أن ينساق وراء مثل تلك الأمور أو يُصدّقها! فتخيّل معي الآن: أن اثنين قد تعلّما لغة الجسد، وكان كلٌّ منهما جبانًا -مثلًا– وقد نصّت القواعد على معرفة لغة جسد الجبان من خلال بعض الحركات التي يفعلها بشكل عفوي، كتأرجح اليدين، أو وضعهما في الجيب، وما شابه ذلك من الاستدلالات السخيفة، فلن يُوقِع نفسه فيها؛ لأنه تعلّم وعَلِم أن هذه الحركات تدل على أن من يفعلها شخصٌ جبانٌ وغير واثقٍ من نفسه.

فهنا -أحبتي– ستتلاشى هذه القواعد والحركات، وسيلجأ إلى التصنّع وإبداء عكس ما يُخفي باطنه.

هذا عوضًا عن أن كثيرًا من هذه القواعد هي في الأساس لا تنطبق على الجميع. فكم من حركةٍ قاموا بتصنيفها على أنها تدل على كذا، وعندما تفعلها أنت -مثلًا– بشكل عشوائي، أو يفعلها غيرك ممن تعرفهم حق المعرفة، تجد كذب هذا "العلم" في كثير من الأمور.

أعتقد الآن أن كثيرًا منكم قد رأى مدى سخافة هذا "العلم" الزائف، وأصبحت الرؤية أوضح ولا غبار عليها.

بل إنني عندما أرى أشخاصًا يقومون بفعل بعض الأمور التي تعلّموها من لغة الجسد، لا أستطيع رؤيتهم إلا على أنهم أشخاصٌ مُتصنّعون، وتمييز هؤلاء الناس أصبح أسهل من شُرب الماء. فكونوا على طبيعتكم التي فطركم الله عليها، ولا تُلقوا بالًا أو اهتمامًا لهذه السخافات.

أما عن وصفي السابق لخباثة هذا "العلم" وجوانبه الكارثية الخفية، فهي ما يكمن في التستّر خلف هذا "العلم". فكم من جبانٍ وخبيثٍ الآن يتصدر الإعلام، وهو يتستّر خلف هذا "العلم الخبيث"، حتى جعل الكثير من الناس تتبعه وتُحبّه، وما هو إلا ضالٌّ خبيث.

وهنا مربط الفرس، أحبتي: أن كثيرًا ممن يذيع نجمهم على منصات التواصل الاجتماعي قد عكفوا على دراسة هذا "العلم" دراسةً متأصّلة، حتى يصلوا إلى قلوب الناس، وينشروا ما يريدونه من تضليل وتحريف وخداع، بتستّرهم بهذا "العلم". فأصبحنا نرى الآن أُناسًا ينشرون المحتويات العلمية من علوم الفيزياء والفلك وما شابهها من العلوم، وينزعون الجانب الديني تمامًا من حلقاتهم، فضلّوا فلا يستطيعون سبيلًا. فساقوا لنا ما يُخالف الدين من "العلوم" الزائفة.

والناس قد خُدعت بهؤلاء الأشخاص بسبب أسلوبهم الذي بُنِي على التستّر خلف "لغة الجسد" المزعومة، حتى ضلّ الناس وأصبحوا يُحاربون من يُبيّن زيف ما ينشر هؤلاء، وكيف أنهم يدسّون السمَّ في العسل.

وكم من شيخٍ أيضًا عكف على تعلُّم هذه "اللغة"، حتى تصدّر الإعلام وبزغ نجمه، وما هو إلا ضالٌّ مُضلّ. حتى أصبح الناس يُقدّسونه ولا يقبلون عليه أي كلمة، رغم أنه لا قداسة في الإسلام لأي شخص سوى الأنبياء، ولا عصمة من الأخطاء إلا للأنبياء.

وكل ما بيّنته لكم -أحبتي– إنما هو غيضٌ من فيضٍ من الأدلة حول هذا السخف، وما ذكرتُه كافٍ وشافٍ. فلا أُريد أن أُطيل عليكم أكثر من ذلك، وقد فعلت.

جعلنا الله وإياكم من المتفكرين، وأتمنى الآن ألّا ينساق أحدكم خلف أي شيء إلا بعد التثبّت والتفكّر فيه، وكونوا منصفين -أحبتي– على الأقل بين أنفسكم. واسمعوا من الجميع، ولا تُقدّسوا أي شخص مهما بلغ حُبّكم له، فلا تأمنوا مكر أحدٍ طالما أنه ليس من أهلكم، وهذا عوضًا عن أن المكر ربما يأتي من الأهل أيضًا، كما في قصة لوط وامرأته الكافرة، وما فعلت.

وأختم مقالتي هذه بقول الله عزّ وجل، وهو أصدق القائلين:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}

دمتم بخير.