بسم الله الرحمن الرحيم

بحر الإنسان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

إن للإنسان ما يشبه البحر في أعماقه، يمثّل ذلك البحر جوهر الإنسان وحقيقته، ويستمد الإنسان من هذا البحر، شخصيته وطبيعته وطبائعه. وقد لا يرى الآخرين من المرء سوى سطح بحره المتلألأ، وقد يلمحوا شيء من تحت السطح، وقد يروا شيء من الأسماك التي تسبح داخله، قريباً من السطح. أما المرء نفسه فقد لا يرى ولا يعلم سوى بسطح بحره وما أسفل قليلاً من السطح، وشيء من بعض الأجزاء هنا وهناك في أعماق بحره.

ويمكن للمرء ان يزيد من مساحة بحره وعمقه، عن طريق التعلّم من الحياة، وعن طريق القراءة والتعلّم، فيزيد بذلك من غنى بحره وغنى الحياة فيه، فتظهر فيه أسماك جديدة، وكائنات حية مختلفة.

ومع الأحداث التي تحدث للمرء في الحياة، فقد يكتشف مع الأيام ومع الأحداث المختلفة، شيءٌ من أعماق بحره، فإن تأمل الإنسان ولو قليلاً في هذه الأعماق التي كُشفت له عن نفسه، أو إذا فكّر فيها قليلاً، فقد يرى ما تحويه تلك الأعماق من حياة، وكلّما أطال المرء التفكير في تلك الأمور كلما اتّضحت رؤيته، لما حول تلك الفكرة من أفكار أخرى قريبةً منها، وقد يرى شيء من حقيقة تلك الفكرة والمرتبط بها من أفكار أخرى، كلما تعرّف أكثر على نفسه وشيء من أعماقها. وعندما يذكر المرء تلك الأفكار للآخرين، فإنه يُطلعهم ببساطة على جزء من بحره وأعماقه. فيروا الآخرين بعض مما يحتويه بحر صاحبهم من عوالم وحياة متنوّعة.

وعندما يكتب المرء، فقد لا يزيد في زيادة مساحة بحره وعمقه بقدر ما يكتشف بالكتابة أعماق بحره والحياة الزاخرة فيه، وعند كتابة بعض الأفكار، قد يرى بعض الأفكار التي حولها أو المرتبطة بها، أو قد يكتشف ما يشابهها من أفكار لديه، فيبدو أن الكتابة تُضيء لصاحبها وتريه بعض الأجزاء من أعماق بحره وتكشفها له، وعندما يكتب المرء تلك الأفكار فإنه يعرض على القارئ بعض من تلك الأعماق التي اكتشفها في نفسه. فيبحروا القرّاء في بحر الكاتب ويغوصون في أعماق بحره ويروْا بعض مما يعرضه الكاتب لهم من بحره.

وإن اكتشف المرء حقيقة في أعماقه لم تعجبه وأراد تغييرها، فقد يبدأ بتغييرها ولكن قد يحدث أن تتغيّر الأمور من حول المرء بسبب هذا التغيير، فيكتشف المرء أن التغيير الذي أحدثه في جزء من أعماقه أو جزء من أفكاره، قد تسبب في بعض التغيير في الأفكار والأعماق المرتبطة بتلك الأفكار التي غيّرها. فإن خاف المرء من هذا التغيير وقرر أن يثبّت كل شيء كما هو باستثناء الفكرة الأولى التي غيّرها، فقد لا يستطيع ويعجز عن تثبيت ما حولها من أفكار، فقد يجد نفسه حينها وقد استسلم وعاد إلى ما كان عليه من قبل، وتراجع عن تغييره الأول، لما يتسبب به من تغييرات أخرى لا يرغب هو بها. ولكن إن أصرّ المرء على التغيير وقام بالفعل بتغيير الفكرة الأولى التي لم تعجبه، فقد يجد نفسه مضطرّاً للتعامل مع التغييرات الأخرى التي أحدثها التغيير الأول، فقد يتأقلم المرء معها، ليحافظ على التغيير الأول. وقد يقرر أن يغيّر أيضاً ما يرفضه من تلك التغييرات إلى الأفضل، مما سيتسبب أيضاً في بعض الأحيان بأن تحدث تغييرات أخرى متلاحقة ومرتبطة بالتغييرات التي أحدثها المرء. مما يعني بأن المرء سيبدأ رحلة التغيير التي قد تضّطرّه لمواصلة التغييرات في بعض ما لا يعجبه، ويستمر في تلك التغييرات إلى حتى وفاته، حيث إنه قد يكون أحياناً صعباً جداً أن يستطيع المرء تغيير كل بحره وأعماقه لما يحب ويرضى في حياته القصيرة، وسيجد المرء نفسه يتحوّل من تغيير إلى تغيير. ولكن إن قرر المرء التوقف في وسط الطريق، فقد يجد أن بعض التغييرات التي حدثت بدأت بالعودة لما كانت عليه من قبل، أو قد تتغيّر لأمور مختلفة أخرى، وسيجد المرء نفسه مضطرّاً للتعامل معها وقد يستسلم ويتركها كما هي بشرّها وخيرها، ويتحمّل أذاها، ويقطف خيرها ويراوغ شرّها محاولاً تجنّبه. فإن ضاق المرء ذرعاً بتلك الشرور وأراد تغييرها وإبعادها عنه فقد يعود مجدداً لإكمال رحلة التغيير، حتى يجد أكثر وضعاً يرتضيه لنفسه، ومما قد يوقفه في وسط الطريق مجدداً هو أن يقوم بتقييم وضعه الحالي مقارنةً بأوضاعه السابقة فإن وجد أن وضعه الحالي أفضل، فقد يتوقف إما لالتقاط أنفاسه ليعود يكمل رحلته وإما يتوقف في مكانه. ولكن خوفه من عودة أذى الماضي أو خوفه من أذى أسوأ منه قد يخف قليلاً ويتلاشى بعضه، وقد يبدأ المرء أحياناً يأمل بخير أعظم مما لديه في وضعه الحالي، مما قد يدفعه ذلك إلى العودة لرحلة التغيير والمشي في طريقها مجدداً لتبدأ التغييرات المختلفة مجدداً... هذا والله أعلم.