القراءة تأتي بمعنى الجمع المعرفي,لذا قرأ أي جمع الحروف فأدركها,والقرآن,أي جمع الآيات ليوصل المعنى (الخطاب القرآني). كما جاء في معجم ابن منظور,وهو المعجم العمدة للعربية,وكما جاء في النص (إن علينا جمعه وقرآنه).[31] 

وهذه إضاءة على القراءة.

ولما نقول (إضاءة على القراءة) لا سمح الله,لا نعني أن نعرفك عزيزي القارئ شيئا لا تعرفه,وإلا ما كنت تقرأ هذه السطور الآن. ولكن هذا مقال للنظر سويا في بعض جوانب القراءة الغير مطروقة. وأولها

عظمة القراءة

وكدت أن أقول أهمية القراءة لولا أن الجميع متفق على أهميتها,ولكن يبدوا أن هناك جدل حول عظمتها كلما خرجنا عن المساحة المحدودة لما ينفي أمية قرائية عن شخص ما. أي بقدر قدرته على القراءة تغدو القراءة مهمة. ولا أكثر من ذلك!. حسنا,أعتقد أن فائدة القراءة أصبحت واضحة كما يجب,علما أن حتى الجاهل الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب يعلم بقيمتها, وحتى يومنا هذا ينظر في مصر إلى تعلم القراءة باعتبارها الشكل الأول -وربما الوحيد- من محو الأمية. أي أنها لا تعدو فكرة التخوف من أن تبدوا جاهلا -مع أنك جاهل بشكل أو بآخر طالما لا تقرأ- وفي أحسن الأحوال,تستخدم القراءة لتجنب توقيع وثيقة لا تعرف محتواها.

هذا حصر لفوائد القراءة في فائدة واحدة,وبعيدا عن تعداد الفوائد العملية أو الفكرية وراء القراءة,هناك فوائد شعورية جمة,فنحن نعيش حياة واحدة,بينما تتيح لنا القراءة أكثر من حياة. "وأن قراءة كل الكتب الجيدة هي بمثابة المحادثة مع أشرف الناس في القرون الماضية أولئك الذين كتبوها"[TM2]  أو كما يقول العقاد (القراءة وحدها هي التي تعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة).

ويقول العرب أن ملكات الإنسان أربع؛الإستماع والتحدث والقراءة والكتابة,ولأن ثقافة العرب شفاهية,اعتبروا أن (الإستماع) سيد الملكات,لولا أنني وربما قارئ هذه السطور, وجاك دريدا معنا,نختلف مع هذا. والأهمية البالغة التي تحتلها القراءة اليوم لا تحتاج إلى تنظير. فالشاهد اليوم أن القراءة تعد معيارا للثقافة يُفرق من خلاله بين المثقف وغير المثقف. ومثلما يقابل النقد الأدب,تقابل القراءة الكتابة. والقراءة النقدية ليست إلا نوع من أنواع القراءة. أما أنواعها (أنواع القراءة) فهي

-القراءة الوظيفية

-القراءة الفاعلية

[1] القراءة الوظيفية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهي القراءة التي تؤدي وظيفتها وفقا للمعنى المعرّف أعلاه,دون أي امتداد لهذا المعنى أو تجاوز لحدود وظيفته أي هي جمع المعرفة المرادة قبلا من هذه القراءة. وهي ثلاثة أنواع

-قراءة جهرية ويراد بها التلقين أو النقاش

ولا يوجد كثير مما يقال حاليا حول هذا النوع سوى في ارتباطه بحفلات التوقيع أو بالندوات الثقافية. وهو نوع مهم يساعد على تحليل ما يُقرأ عبر انعكاسه على عقول متضاربة.

-قراءة سريعة أو استكشافية / استقصائية وتسمى اطلاعا

وتوفر للقارئ كم هائل من المواد الرقمية الصالحة للقراءة (والمعدومة الفائدة في أغلبها) مما سبب أزمة كبرى لازالت تحظى بإهتمام الدارسين والباحثين في محاولة لإيجاد حل.

-قراءة صامتة وهي الأصل من القراءة الوظيفية

النوع الأخير هو الأشهر والأكثر شيوعا,ويكون فيه القارئ على إستعداد مسبق لتلقي معلومة جديدة,أو للمرور بتجربة شعورية معينة,مثل قراءة رواية رعب أو رومانسية. وفي هذا السياق ندرج مقالا حول (العمليات الذهنية التي يمارسها عقل المتلقي).

ولأن المراد من هذه القراءة المرور بتجربة معرفية أو شعورية,استعيض عن القراءة بالعين بوسائل أخرى,مثل الإستماع للكتب الصوتية التي لاقت ذيوعا كبيرا في الآونة الأخيرة, ولازالت تتوسع في عدد قراءها. ومثل أنواع خاصة جدا,كالقراءة على طريقة كتابة برايل للعميان.

[2] القراءة الفاعلية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأقول الفاعلة,لا المتفاعلة,لأنها في بعض مراحلها تتجاوز عملية التلقي وتشارك بدور حساس في تكوين النص الفكري / الفني,من خلال (جمع) شتاته المعرفي.

وأنواعها

-القراءة الهامشية

وهي تلك القراءة الخاطفة في سرعتها لما تقع عينك على ما يسمى بـ (عتبات النص) من عنوان,أو تصميم للغلاف,أو حتى اسم الكاتب أو الناشر الذي كون عنه تصورات مسبقة جيدة لدى القارئ. وحاليا تحظى هذه العتبات بمجموعة من الدراسات تسمى بالدراسات الهامشية التي تعني بـ هوامش النص. وصولا لـ تصميم طباعته,والعناوين الفرعية,عناوين الفصول,الرسوم الداخلية إن وجدت,ظهر الغلاف,والمقدمة,إلخ.

-القراءة المتذوقة

يقول الأديب اللبناني الكبير مارون عبود أن (الذائقة الأدبية هي أفضل معيار نقدي) "وعلى أساسها مارس أعظم النقاد العرب (مارون عبود) عمله النقدي الثقافي الابداعي الخالد، ونفس الظاهرة نجدها لدى الناقد الكبير محمد مندور." [بين الفكر والفلسفة / نبيل عودة / الحوار المتمدن]. وذلك صحيح,ولا يحتاج إلى كثير جدل لإثباته,فالمقارنة تعد واحدة من العمليات الأساسية في التفكير السليم. وعليه,كيف يمكن أن نقول أن هذا جيد إذا كان مستواه (بالنسبة إلى الآخرين) في الحضيض. وكيف نعرف أن هذا أعلى أو أقل من هذا دون الاطلاع على كليهما. ومن ذلك,فإن المطلع على رصيد رصين من القراءات الأدبية (التي أنهاها من الصفحة للصفحة) يحق له بعد الاطلاع أيضا على الأعمال الركيكة المفككة أن يكون حكما. أما من قرأ رواية واحدة رومانسية أو شبابية ثم يصرخ أنها الأفضل (رغم أنف الجميع) فليس إلا مصدر للإزعاج والتضليل.

-القراءة النقدية

وهي لا تكتفي بإطلاق حكم على النص,وقد لا تصل إلى هذه المرحلة حتى. ونرى أسماءا لامعة برعت فيها منذ كانط ونيتشه مرورا بـ ماركس وجاك دريدا وإدوارد سعيد ورولان بارت وصولا إلى جان بوديارد. القراءة النقدية تعمل على جمع شتات المعرفة وإعادة تفكيكه وتشتيته لجمعه مرة أخرى. وهي عملية مستمرة لا تتوقف. وفي مقال لاحق ربما نتعرف أكثر على العلاقة بين القراءة وعملية إنتاج (الأصالة).

ثم ظهرت علوم القراءة,حيث تشغل القراءة مساحة لا بأس بها بصفتها موضوعا يحظى بإهتمام عدد من الدراسات المهمة,منها دراسات مانغويل على سبيل المثال.

هذا غير إرتباطها بمختلف صنوف العلم والمعرفة,مثل الأدب,باعتبار أن القراءة الأدبية هي أشهر أشكال القراءة والأكثر شيوعا بين الناس. كما أن القراءة مقترنة جدا بالدراسات السردية,فالسرد انعكاس لقراءة الكاتب لنصه,وعلاقته مع القارئ يؤمل دوما أن تكون مثمرة. والفلسفة كونها مدخل مفتاحي لعدد من المدارس الفلسفية الكبرى,مثل البنيوية والتفكيكية وحتى التحليلية. والسياسة وعلم الإجتماع,و...

وبعد

ماذا لما نتحدث عن القراءة (الأدبية) من ناحية معرفية / مكتبية. غالبا نميل في هذه الحالة إلى الشطر الأخير,أي علم المكتبات والمعلومات,ومنذ ميلفيل ديوي,لم تحدث طفرة في هذا العلم مثلما حدث على يد ألبرتو مانغويل,الذي جعل منها علما ممتعا وشائقا لأقصى درجة بعد أن سحبه من أدراج العلوم البيانية. وبدل النظر إلى الكتب بوصفها بيانات,أصبحت كتبا أو روايات. وعلى هذا الأساس تعددت القراءات وتم صياغة قراءة جديدة لعملية القراءة نفسها. وصار هناك موضوعين حول القراءة؛القراءات والمقروءات. الأخيرة لاقت قبولا نشهده واضحا على مواقع التواصل الإجتماعي,وعلى رأسهم موقع القراءات الجيدة الذي خُصص فقط لذلك. ومن بعده انتشار قنوات البوك تيوب. هذا غير عدد من المواقع الثقافية (من بينها موقع الكتابة الذي كنت أتمنى نشر هذه المدونة عليه).

وثانيها

مشكلة القراءة

هي مشكلتان تحديدا بالنسبة لي

القراءة القصيرة

والقراءة الطويلة

فأما الأولى,فأختص بها القارئ الذي لا يقرأ,أو لم يقرأ سوى كتاب واحد في حياته,وفي أحسن الأحوال كتاب واحد في العام. وهذا يضيق رؤيته للأمور إلى أقصى حدود ضيقها.

وهنا ننتقل سريعا إلى الثانية,ونراوح بين المشكلتين,فالقراءة الطويلة أقصر من تلك القصيرة ولا توسع أفقنا إلى أبعد الحدود. وهذه مشكلتها. ولكنها تجعلنا نتجاوز الأفق إلى ما بعد البعد دوما. أي أن المشكلة هنا بين واحد لا يقرأ شيء,وآخر يعجز عن قراءة كل شيء. ومع ذلك يجب أن تقرأ لأنك لن تحكم على شيء ما لم تره,هكذا تعطيك القراءة متسعا من الرؤى التي تصبغها بآرائك الخاصة. ولهذا لا يمكن أن نحكم على مذاق بأنه حلو أو مرّ ما لم نتذوقه. ولهذا أيضا يقارب الكثير من الأدباء والقراء بين القراءة والتجربة,خاصة في صورة الرحلة. ثم أن هناك التجارب الفكرية. إن القراءة لا شك وبإتفاق الجميع هي مفتاح هام لإثراء ثقافتك.

ومع هذا,ورغم كل الآفاق المفتوحة أمامك بفعل القراءة,يتحامل بعض المفكرين على ذلك السلوك (القراءة) كونه فعلا ناقصا. مثلا يربط الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز -يعد ودريدا مؤسسا فلسفة الإختلاف- بين تاريخ الفلسفة وتاريخ القراءة "فتاريخ الفلسفة كان يمارس دورًا قمعيًّا في الفلسفة، بل إنه الأوديب الفلسفي، حيث لم يكن ليجرؤ أحد على التكلم باسمه الخاص ما دام لم يقرأ هذا أو ذاك".[TM3] 

هذا النوع من احتكار المعرفة كان الشاغل الأساس والموضوع الرئيس في فلسفة ميشيل فوكو,وقد أشار إلى (معرفة السلطة) أو (سلطة المعرفة) في أكثر من موضع من كتاباته, وخصص لها كتابا بذاته. ولم يكن ذلك مما يشغل فوكو لوحده فقد سبقه أيضا فرانسيس بيكون في تأسيسه للمعرفة السليمة فيما أسماه أوهام المسرح. أي تلك المعرفة التي لا يؤخذ بها إلا لأنها صادرة عن فلان أو علان بغض النظر عن مقدار مصداقيتها. وقد أشرنا إلى ذلك مسبقا في مشكلة الموسوعية (حيث القراءة / الكتابة الموسوعية).

كل ما سبق يبين لنا كيف أن القراءة تشكل الرؤية,ولهذا ينظر عادة باستهانة إلى كل من يدلي بدلوه أو برأيه في مجال ما رغم أنه ربما لم يقرأ كتابا واحدا في حياته من الصفحة إلى الصفحة. بحجة أن (فتح المجال لكل من هب ودب) هو من باب الحرية. كأن هذا هو الشكل أو الشرط الوحيد من شروط التحرر!.

وفي الأخير نذكر أنه كان لدي الكثير من الموضوعات المتفرقة عن القراءة داخل القراءة داخل القراءة داخل القراءة. فعلا دون مبالغة. ولكن لذلك مقالات أخرى.

 [31]القرآن الكريم,سورة القيامة,الآية 17.

 [TM2]حديث الطريقة / ديكارت / المنظمة العربية للترجمة, ترجمة عمر الشارني,ص 51.

 [TM3]تاريخ الأفكار (فوكو ودولوز) / د. حموم لخضر / مجلة كلمة, عدد 97,السنة الرابعة والعشرون,خريف 2017م / 1439.