كان المجتمع العربي والمصري في زمان فات مجتمع قارء يهتم بالمعرفة حتى إن لم يطبقها، لكن اليوم وبسبب تبسيط التكولوجيا لطرق الوصول إلى المعلومة إلى حد جعلها تمثل بين يدي طالبها في أقل من ثانية، صرنا نحن البشر نشبه كثيرًا القرود الغاضبة.  

لا نقتنع بأي شيء ونجادل في أي أمر مهما كان بسيطا ونحاول دائما الوصول إلى أي شيء عبر التكنولوجيا، فأول خطوة لبلوغ أي هدف تبدأ بالبحث على محركات البحث التي تطلق زواحفها للتحقق من كل النتائج المتطابقة مع ما كتب في خانة البحث وتعرضه عليه في كسور من الثانية، فإن تأخرت ثانية أو إثنين أو انقطع اتصالك معها استشط غضبًا وكففت عن التفكير فيما كنت تحاول معرفته.، وإن وافتك النتائج تقرأ فقط الفقرات الأولية والعنواين وتكتفي بالفكرة العامة دون تأصيل أو استدلال. 

وبهذا يخرج جيل كامل لا يعرف أي وجه للحياة إلا ما بعد ذكاء الآلة، ولو طلبت منه طبخ الغداء سيقوم بطلبه ببساطة من خلال هاتفه دون عناء وإن تأخر الطلب سوف يستشيط غضبا ويقيم المطعم بشكل سلبي تمامًا. 

إن حمى الارضاء تلك التي نعيشها في هذه الأيام خلقت نوعًا جديدًا من الاقتصاد والحروب بين الدول والشركات، وهو اقتصاد وحروب المعلومات ومراكز البيانات،

رسائلك أماكن تواجدك صورك صوتك اخبارك كل معلوماتك الحيوية والمهمة مسجلة عل هاتفك الذكي، ومقسمة على عدة دول وتطبيقات وشركات، ولكل منها أهدافه وسياساته، لكن هذا لا يعنيك كل ما عليك هو الاستمتاع باللعبة أو الخدمة أو بالتواصل مع من تحب، ولا تقلق لن تدفع أي شيء، صحيح أنه توجد إعلانات لكنها لن تكلفك أي شيء، وما الحاجة إلى تكليفك بشيء، أنت بالفعل تعطينا كل شيء، بيناتك يا سيدي تدفع رواتبنا وتزيد من قيمة أسهم شركتنا وتعزز من قوتنا، وأهم ما تعطينا إياه ولن تدرك قيمته إلا بعد فوات الأوان هو وقتك وعمرك. 

نعم نحن نعترف أن سياستنا الأولى والأخيرة هي سرقة أغلى ما لديك، تلك الدقائق والساعات والأيام التي تقضيها في رفقتنا تعزز من مقدار قوتنا وذكاء أجهزتنا. 

إن تجربتك أيها المُستخدِم أو يمكن أن أقول المُستخدَم هي ما يساعدنا على تهيئة كل شيء لك لكي تكون مرتاحًا وراضيًا تمامًا، بينما نأخذ منك بملئ إرادتك كل ما تملك،

لا تقلق أنت ما زلت المتحكم في كل شيء، أو هكذا نريدك أن تظن، صحيح أنك تمسك الريموت، لكن هل ستجرؤ يومًا على إغلاق التلفاز، الأمر عائد لك. 

هكذا تمامًا تتحدانا التكنلوجيا الحديثة، وتحاول من خلال خورزمياتها وذكائها الاصطناعي ومن خلفه رجال أعمال ومبتكرين، أن يخلقوا نوعًا جديدًا من النفط، لكنه نفط متجدد، وهي المعلومات وقواعد البيانات.  

رأينا في بعض الأحداث العالمية كيف استخدمت تطبيقات التواصل الاجتماعي "المجانية" في اسكات بعض الأصوات مقابل الحرية المطلقة التي تمتعت بها بعضها، ورأينا كيف كان لبعض المنصات أن تحذف حسابات رسمية ودولية وتمنعها من الكلام. 

ونرى يوميًا كيف يلطقت هاتفنا "الذكي" همساتنا مع الاصدقاء ويحولها إلى إعلانات، والغريب أن هذا لا يثير مخاوفنا بقدر ما يثير إعجابنا، وهذا ما أعنيه تماًما بمصطلح القرود الغاضبة: لأن الغضب يعمي البصيرة ويجعلنا نرتكب الأخطاء بعفوية، وهنا يكون انقيادنا وراء أبسط التوجيهات سهلًا، لأن عقولنا لا تعمل. 

سل أي مدمن كيف بدأ؟ ستجد لحظة غضب ونقمة على العالم كانت هي شرارة أول نشزة إدمان في عقله. 

وهنا تحديًدا يأتي دور تلك القوة القاهرة الناعمة التي بين أيدينا، فهاتفك صار يستغل لحظات تعبيرك عن غضبك ووحدتك وجوعك وألمك، من أجل أن يجعلك زبونا إلى أحد رجال الأعمال الذين يدفعون بسخاء شديد، من أجل أن ترى أنت إعلاناتهم. 

خصوصيتك ليست مهمة، يشجعونك على نشر كل لحظة في حياتك، فلربما كانت بابا لسوق لم تطأه قدمهم من قبل.