عندما تكون مشتت تتصارع بداخلك قوتان: واحدة تخبرك بأنك ضعيف لا تتمكن حتى من السيطرة على أفكارك، والثانية تخبرك بأنك قوي لكن الظروف حرمتك من المحاولة، لكنك لا تتمكن من الركون إلى أحدهما لأنك في تلك اللحظة تصدقهما معا، 

تعرف أنك تخاذلت في وقت الرخاء، فشتدت عليك الأمور في وقت الأزمة، وتعلم بأن المشاكل كبلت يداك فلم تعد قادراً على المحاولة. 

لكن التشتت لا يحرمك المحاولة، إنما يحرمك التفكير في أمكانية وجود فرصة جديدة، إنه يحرمك الأمل في محاولة أخيرة.

تمر يوميا أمام شباك احلامك، وتشاهد نفسك وأنت تحتفل وتمزق كل أوراق الفشل، وتعلق شهادات الفخر على جدران الوهم المحلقة في خيالك المريض. 

كم تتمنى أن تعلق حتى لو ورقة فارغة على أحد جدران غرفة بيتك، لكنك تتذكر أنه حتى تلك الورقة الفارغة تحتاج إلى هدف لتعلقها عليه، وكل أحلامك لم يعد بها مكان. 

لأنك صرت بطل الابطال في حلم، وعالم كبير في حلم آخر، وملياردير في حلم ثالث وأشهر المشاهير في حلم رابع، وأكثر إنسان محبوب في حلم خامس وهكذا. 

تجلس على مقهى السهر تشاهد كل تلك الصور الوهمية عنك، وتحسدها وتتمنى ما لها، تحتسي قهوة اللوم وتآكل ذكرياتك الواقعية الأليمة في جَلد تتصنعه، تقلب في معرض التاريخ في هاتفك الذكي، فترى من خلال نافذته كل معاركك الخاسرة القديمة، وترى انتصاراتٍ ضئيلة أمام كتل الهزائم وتلال الإنسحابات. 

أنت لم تُرد أصلاً خوض معظم تلك المعارك، ولم تعد شغوفا بالحروب، صرت فقط تريد أن تعيش ، لكنك تدرك أنه حتى هذة الغاية بذاتها هي أعظم حرب تخوضها يومياً بلا توقف. 

تريد أن تغلق هاتفك وتنام، لكن ركن العِبر في عقلك يضيء بمجرد خفوت ضوء هاتفك

ويشغل لك أشرطة قديمة، لطفل سعيد، كان يلهو بتلك المعارك، كانت بالنسبة له مجرد تسلية وإمضاء وقت، تعرف ذلك الطفل، تتذكر حيويته وقوته، تتذكر أحلامه فتستعبر، تفكر في خيانتك له، وتضييع آماله، والتفريط في إنجازاته. 

كبرت بجسد قوي فاتلفته، كبرت بعقل سليم فغيبته، كبرت بقلب حنون فقسوت عليه

فتحجر وتبددت كل مشاعره إلا البدائي منها 

كالبكاء والضحك. 

هذا كل ما بقي من طفولة قلبك، ومازلت تستخدمهما لذات الغرض، تبكي خوفا أو طمعا، وتضحك لهوا أو مرحا، ولا تنتهي تلك الليلة إلا عندما تتعب جفونك من إبقاء ستار عينيك مرفوعاً؛

فيرخيهما. 

لتنتقل من مراقبة عالم الاحلام إلى العيش فيه، وتتسائل متى أبقى هنا إلى الأبد؟!