يتوهم الكبار أنّ الصغار لا يعرفون شيئاً من أمور هذه الدنيا، ولن تتزن عقولهم حتى لو بلغوا سن الشباب، فوالدي مثلاً: يراني صغيراً حتى ولو بلغت سن الثلاثين، يعتقدون بأننا لا نستطيع الاعتماد على أنفسنا و يجب الاقتداء بهم و الامتثال لأوامرهم كي ننجح في حياتنا الخاصة.

الواحد منهم ينظر من جهة معينة فربما هو الخوف والحرص على سلامتنا في نهاية الأمر، أو الشك في قدرتنا على تجاوز تضاريس الحياة الصعبة، المهم هنا هل يقتنع الكبار يوما ما بإمكانيات الصغار؟

ركبتُ الحافلة في أحد الأيام و جلست أمام رجل يقارب الخمسين سنة على ما يبدو، وكان أمام ناظرينا شيخ كبير يجلس على الكرسي الذي أمامنا و يتكئ على عصاه بقوة و سرعان ما بادلني الكلام قائلاً: كيف حالك؟ 

فقلت: بخير و أنت يا عم؟

قال: الحمد لله، ماذا تصنع في حياتك؟

فقلت: أنهيت دراستي للتو وأنا أعمل مع شركة خاصة الآن، وقد كانت كل إجاباتي رسمية فأنا لا أعرف هذا الشيخ ولا أستطيع الولوج لعقله لأدرك هل يسأل على أحوالي بشكل عفوي؟ أم من أسئلته خبايا يريد الوصول من خلالها لمكان معين؟، ثم ما لبث قليلاً حتى نظر إلى الرجل بقربي وسأله: ما رأيك في هذا الجيل؟ هل تتوقع منه النجاح أو انجازا في هذه الحياة؟ وكان بالطبع ينظر إليَّ ويقصدني بكلامه، فبادلته بابتسامة عريضة لم تكن بسبب السخرية أو الوقاحة، لكن لا أحد يستطيع أنْ يحط من قيمتي أو يحبط معنوياتي حتى لو كان أخي، لم يرد الرجل بجانبي على الشيخ واكتفى بهز رأسه، وظل الشيخ لحوالي ثلاثين دقيقة يتكلم دون انقطاع ويتأسف على شباب اليوم، وختم كلامه وهو على وشك النزول في محطة معينة بكلمات رسخت في ذاكرتي لليوم، لقد قال: {لو صنع شباب اليوم حبة حلوة فقط لكان انجازاً كبيراً في نظري}.

لم أستطع أن أفهم تصرف الشيخ و منطق كلامه لكن كنت على يقين أن في مجتمعاتنا هذه حتى الكبار الذين يزعمون أن الحياة ارتوت و شبعت من تجاربهم و خبراتهم يملكون كذلك نقائص بل يجهلون الكثير من الأمور، وللحظة عم الصمت في الحافلة و ساد على عقلي نوع من الخمول، جعلني لا أحس بأني تنهدت بصوت مرتفع جداً، هذا ما جعل الرجل الذي يجلس بقربي يهزني بكتفه فملت برأسي و نظرت إليه فقال: أنا أملك عدة مخابز في هذه المدينة، ما رأيك بهذا العمل؟ 

فقلت: عمل رائع، عدة مخابز، إذن فأنت رجل أعمال؟

فابتسم لي ورد بصوت خافت: لقد كنت خبازاً قبل عامين، وأنا الآن رب عمل وأملك حوالي ثلاثين عاملاً من بائعين وصُناعٍ تحت يدي.

فقلت له: ما شاء الله، أنت ناجح حقاً يا سيدي وأنا كذلك أطمح لأكون أفضل من حالي هذا.

فقال لي: تستطيع أن تكون ما تريده بالطبع إنْ وثقت بذاتك، و لا تكن مثلي.

فقلت بحيرة: حسب كلامك لقد أنجزت ما أردته ؟

قال: نعم، لكنني تأخرت في القيام بذلك بعض الشيء.

قلت: كيف ذلك؟

قال: مارست صناعة الخبز و الحلويات مع والدي في محل صغير لا يتسع حتى لأربعة أشخاص مع آلات العجن و الفرن، و بعد سنوات من العمل الشاق كأجير استطعت أن أجمع مبلغاً من المال فعرضته على أبي كي نقوم بفتح محل كبير و نشتري آلات جديدة و نقوم بتشغيل عاملين أو ثلاثة معنا، لكنه رفض في الحال و قام بتوبيخي كما أنه حذرني من إعادة هذه الفكرة مرة أخرى و تحجج بخطورة هذه المجازفة و أنَّ فكرتي مغامرة لا نستطيع تبذير الأموال فيها، كما أن محلنا الصغير كافٍ و نجني منه أرباحاً تكفينا، و صارحني بأنَّ تفكيري طائش و لا أدرك الخطوة التي سأقدم عليها كشاب جديد على هذه الحياة، والكارثة أنني اقتنعت بكلامه و مضت السنين و تزوجت و أنشأت أسرة تتكون من خمسة أفراد اليوم، لكن ظل ذلك الحلم يراودني فلم تكن الأرباح أو الأموال هي غايتي كما ظن أبي بل شخص في داخلي كان يسألني أسئلة ثم يجيبني بنفسه و أيقنت بأنه محق على الدوام، لماذا نتعب أنا و أبي و يمكننا شراء محل كبير و توظيف عمال للمساعدة؟ لماذا لا أقوم بشراء محلات صغيرة وتجهيزها بآلات؟ ثم توظيف عمال يقومون بهذا العمل وأخصص لهم نصيبا من الأرباح دون عناء وأمنح لعائلتي المزيد من وقتي أقضيه بصحبتهم، لماذا نكدس المال ولا نسعى لاستثماره؟ جالت في رأسي كل هذه الأمور ولم أملك الشجاعة لتنفيذها إلا قبل عامين بعد وفاة والدي، وبذلك خسرت وقتاً وعمراً من حياتي كان بإمكاني أنْ أكون فيه أفضل حال وختم كلامه بحمد الله، ثم تابع لقد قصصت لك ما حدث في شبابي مع والدي لأن ذلك الشيخ ذكرني على الفور بتصرفاته، وقد كان درسا ملهماً حقاً في مدة لم تتجاوز الساعة.

أحيانا لا يكتفي الكبار باستصغار الأطفال و الشباب بل يتجاوزون ذلك و يقضون على طموحاتهم و أحلامهم، خاصة بعض الآباء لأنهم يرون في صغارهم عدم القدرة على استيعاب ما يحدث من حولهم، و يظنون أنّهم يقومون بحمايتهم بطريقة أو أخرى لكن على العكس تماماً بأسلوبهم المتبع هذا يدمرون كل ما يبنيه الصغار في أذهانهم و مع الوقت يتحكمون حتى في قراراتهم أحياناً بإرادتهم و أحياناً أخرى لا.

لابد من الكبار أن يداعبوا أفكار الصغار و يساعدوهم على تسلق سلالم هذه الحياة و حتى إن سقطوا يجب أن يكونوا خلفهم كي يساعدوهم على النهوض و يقوموا بمسح تعثراتهم بكلام معسول و ابتسامات تزيد من همة الصغار، في عامِيَ الأول في الثانوية تحصلت على معدل لا يتعدى الواحد من عشرين في مادة الرياضيات و هذا ليس لأنني طالب غير مبال بل على العكس، لكن ذنبي الوحيد أنني جئت للثانوية من حي شعبي بسيط، ما جعل الأستاذة تحكم عليَ من خلال المجتمع الذي أعيش فيه و ليس ما أملكه في عقلي من قدرات، ما جعلني أفكر في الانتقام منها فكنت أرفض إنجاز الفروض و الامتحانات و لم أتوقف للحظة لأدرك أنني أنتقم من نفسي بسبب أستاذة لم تُحَكِمْ النظر في قدراتي خاصة أنني صغير في السن و كنت أحتاج إلى رأي صواب، لكنني تجاوزت ذلك في العام الثاني مباشرة بعد أن درست عند أستاذ نبيل، الذي استطاع أن يرشدني إلى الطريق بأسلوب بسيط جداً تمثل في تسليمك لقلم حبر و أن تصعد للإجابة بأسلوبك أنت، حتى ولو كنت مخطئاً، حتى ولو ابتكرت نظرية تمس الرياضيات و لا تملك أي صلة بما تدرسه، لقد ابتكر هذا الأستاذ الذكي أسلوباً فريداً جعله يجذبنا إليه نحن الصغار.

على الكبار أن يساهموا في إعداد الصغار كي يصبحوا عظماء في هذه الحياة، حتى يصبحوا كباراً بعقولهم، ليحققوا أحلامهم و يتوصلون مع الوقت إلى ما يرغبون فيه، ألا يظن الكبار أنَّ هناك من الصغار من عقولهم تتخطى كل التوقعات و يستطيعون تصحيح مفاهيم لا يزال يجهلها الكبار فحتى الصغار لهم تجاربهم و حكايات ربما هي من تحدد ما سيصيرون عليه في المستقبل لذلك على السلبيين من الكبار أن ينظروا إلى الصغار نظرة فخرٍ و أملٍ و يحاولوا مساعدتهم من خلال محاورتهم للوصول إلى ما يرغبون في تحقيقه.