الحياة الرقمية تُفسِّخ احساسنا بالحضور الجسدي في هذا العالم.
لطالما تجلَّى هذا التفسُّخ الجسدي في الحفاوة المبالغة بالصور واللقطات. لا نكاد نحضرُ اللحظة إلّا لتصويرها. لكنَّه أمر مفهوم، ففي النهاية معظم من نعرفه في الحياة الرقمية لا يرانا في الواقع، وإن صادفناهم فما هي إلّا بضعُ لحظات. ناقشتُ في تدوينة قديمة (1) أنَّ الصور التي ننشرها أصبحت بمثابة اللغة التي نتواصل بها مع الناس.
أنا أفهم هذه اللغة، وأتحدّث فيها في أحيان كثيرة، أنشر صوري بين فترة وفترة، لأبقي على هذا التواصل مع بقيِّة الناس.
الأمر الأكثر تطرّفا في الإنفصال عن الجسد والواقع، هو ما يروجُ مؤخرًا من ثقافة "تصوير البروفايل" في الأماكن المشهورة: حاليًا ملاعب مونديال قطر، حفل غنائي، وحتّى الأماكن الدينية مثل الكعبة المشرَّفة.
في تويتر ببحث بسيط عن "بروفايلي + الكعبة" ستشاهد العديد من الناس يتحدّثون عمّن صور لهم بروفايلهم في الكعبة، أو يطلبون تصويره لمن يذهب إلى هناك.
الصور من هذا النوع يجب أن تمتلك مزايا محدّدة: يظهر فيها المكان جليًا في الخلفية، ويلتقط الشخص صورة لنفسه ممسكا بهاتف ثاني يظهر بروفايل صاحبه. انتبه! اذا لم يظهر المكان بشكل واضح فقد ضاع هدف الصورة!
لو عدنا خمسين سنة إلى الوراء فقط، وهو عمر قصير جدًا في تطوّر الثقافات البشرية، وقلنا لجدّي عن الهدية التي جلبناها له من أمريكا: قد كتبتُ اسمك أمام تمثال الحريّة! سيشيح جدِّي بوجهه عنك متذمرًا من هذا السلوك غير المُنتج، وسيقول لك ألم يكن لك مال تبتاع لي فيه هدية حقيقية؟
برأيكم، ما الذي حصل في العقدين الأخيرين، فجعلنا نحتفي بهذا الشكل المبالغ به في "تصوير البروفايل" أمام الأماكن التاريخية والمشهورة؟
التعليقات