كان من الممكن أن يطرح السؤال بصيغة أخرى: متى سيتغير العالم؟ ولكن يبدو أن هذه الصيغة لم تعد تناسب ما يحدث اليوم، وأزعم أن العالم قد تغير فعلاً. ويمكن أن يرى بعضهم في هذا الزعم نوعاً من المبالغة، وشكلاً من أشكال الإسراف في اليقين في غير محله.
عبر التاريخ، لم يكن التغيير يحدث بشكل مفاجئ. إنه يأخذ كل وقته، ولا يعني هذا الكلام التغيرات الجزئية التي تصنعها الأحداث، بما فيها الأحداث الكبيرة التي تعطي الانطباع بأن تغييراً قد حدث، كالحروب، والأزمات الاقتصادية الحادة، والثورات، وزوال أنظمة سياسية.. التغيير المقصود هنا هو الذي يستغرق في الزمن، وسمّاه المؤرخ بروديل التاريخ الطويل، ويمكن تمثيله بالتغيير الذي يحدث في ملامح الوجه، لا يمكن أن نلاحظه حتى ولو حرصنا أن نرى أوجهنا في المرآة كل صباح، لكنه يحدث، ونحتاج إلى الزمن لكي نراه.
للتاريخ منطقه، وله بشكل خاص "مكره". المهم في ذلك كله ألا يشغلنا ضجيج الأحداث عن رصد النبض القوي الهامس لتحولات "التاريخ الطويل"
يحدث هذا التغيير ببطء شديد لا يجلب الانتباه، وهو التغيير الحقيقي في الجوهر، لأنه يحدث الفارق الجلي عمّا كان قبله، ليس تغييراً في الشكل، ولا في الاتجاهات الثانوية التي تقود الحياة، لكنه تغيير يُلمس في ثلاثة مؤشراتٍ أساسية: القيم القائدة، موازين القوة، المركز والأطراف. وهي مؤشراتٌ تتبلور بمقياس الزمن البطيء، وعندما تدرك تكون قد قطعت شوطاً كبيراً، لا يمكن معه إعادتها إلى الخلف، تماما كضوء النجوم، ما يصل إلينا اليوم منها انطلق منذ آلاف أو ربما ملايين السنين، وهذا يعني أن هناك مسافة بين لحظة انطلاق مسار التغيير وظهور ملامحه وأعراضه وثماره.
لقد تشكلت نواة النهضة الأوروبية الحديثة في العصور الوسطى، وتجلّت ملامح تراجع فعالية الحضارة الإسلامية في وقتٍ كان الصعود العثماني العسكري يحجب ذلك، وبدأ الحديث عن انحدار الغرب في أوج نفوذه الاستعماري، وكانت البذور الأولى لتفكّك الاتحاد السوفييتي تزرع في وقت كان الجيش الأحمر يجتاح أوروبا الشرقية خلال الحرب العالمية الثانية، كلها أمثلة تؤكد فكرة المقال الأساسية.
حفلت نهاية القرن الماضي، بعد نهاية الحرب الباردة، بأحاديث واسعة عن العولمة، وعن نظام عالمي جديد، وعن نهاية التاريخ، أين نحن من ذلك كله؟
لحظات الانتشاء بالنصر والاعتزاز بالقوة، تماماً كلحظات اليأس والشعور بالخيبة، قد تشغل عن رؤية تحولاتٍ تحدث في العمق، تحولاتٍ قد لا يكون لها ضجيج، وتلك هي نقطة قوتها لكن تأثيرها حاسم على المدى البعيد. وعندما نزعم أن العالم قد تغير، فلأن إفرازات تحوّلات سابقة من النوع المشار إليه أعلاه قد بدأت تتجلّى، فتفكك المنظومة الاشتراكية، في نهاية أيضاً تعبيراً عن بداية إفلاس لمحور واشنطن - موسكو، كما كان يسميه مالك بن نبي، بما يمثله هذا المحور من قيم فكرية عميقة مشتركة، ليس بينها إلا تباينات في الشكل، وتناقض في المصالح، على الرغم من أن منظّري "نهاية التاريخ" حاولوا إخراج الأمر كما لو أنه حسم لصالح الليبرالية، وبالتالي انتصار نهائي لهذا النموذج الأيديولوجي.
أدّت الأزمة المالية التي ضربت العالم سنة 2008 إلى وضع هذا الادّعاء على المحك، وكشفت عن الثغرات البنيوية في المنظومة الرأسمالية، كما أن أحداثاً أخرى عمّقت هذا الاتجاه، ومنها أزمة اليونان، وتزايد نفوذ الأحزاب اليمينية المتطرفة في عدة دول أوروبية، وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأخيراً انهيار المنظومات الصحية لهذه الدول أمام وباء كورونا.
ولا يعني هذا طبعاً أن المنظومة الرأسمالية انتهت فعلاً، أو هي قريبةٌ من ذلك، لكنها مؤشرات على تحول يحصل، وأن بعض أعراض ذلك تظهر تباعاً، وأن "الأحداث" التي ترافق هذا التحوّل تلعب دور المسرّع. كما لا يعني هذا أيضاً أن البديل جاهز، لكن الأكيد، كما تخبرنا مسارات التاريخ، أن كل نهاية في نقطة ما هي بدايةٌ في نقطة ما.
أصبحت قدرة "الغرب" على الضبط أضعف مما كانت عليه، على الرغم من أن مكونات القوة الصلبة واللينة ما زالت بين يديه
حفلت نهاية القرن الماضي، بعد نهاية الحرب الباردة، بأحاديث واسعة عن العولمة، وعن نظام عالمي جديد، وعن نهاية التاريخ، ولكن بعد مرور ثلاثة عقود: أين نحن من ذلك كله؟ هل ما زال لهذه المفردات والمفاهيم حضور وتأثير؟ وهل ما زالت موازين القوى التي أفرزتها تلك المرحلة على حالها؟ ليس من الحكمة المجازفة بالجواب السريع والجازم، فلطالما كانت للقرون في السابق بدايات أو نهايات موحية، وأحياناً مضللة بما سيسودها، وإذا أخذنا القرن الماضي مثالاً، فإنه بدأ فعلياً مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وانتهى فعلياً بنهاية الحرب الباردة. وفي الحالتين، كانت موازين القوى إفرازاً طبيعياً لمن كانت نهايتا هذين الحدثين تبدوان لصالحه، قبل أن يتغير الاتجاه على غير المتوقع، ففي وقتٍ تجمعت فيه الدول المنتصرة بعد الحرب الأولى في عصبة الأمم، استعداداً لصياغة العالم بلونها، فإذا بظهور الاتحاد السوفييتي ينسف هذا الطموح، ويفرض منطقاً آخر، سيستمر حتى نهاية القرن تقريباً. وهو نفسه ما حصل مع نهاية القرن، عندما كان الغرب الرأسمالي مزهوّاً بنصره على الشرق الاشتراكي، فإذا ببعض تهوّراته، وبعض غروره، يدفعانه إلى دائرة اللايقين، وإلى متاهة التيه، وهو ما يتأكد من يوم إلى آخر.
ماذا يحدث اليوم؟ المقصود باليوم في هذا السؤال يتجاوز حدود اللحظة في مفهومها الزمني، إلى اللحظة في مفهومها التاريخي، أي اللحظة التي تحمل دلالة التحوّل، ليس باعتباره بداية مرحلة، ولكن اكتمال مقدمات ميلاد مرحلة ونضجها، تماماً كاكتمال الجنين بعد تسعة أشهر قبل الميلاد. أما الميلاد فلا ينبغي أيضاً أن يُؤخذ بمعناه الحرفي، فهو ليس انقطاعاً كاملاً لمرحلة سابقة منتهية، ولا صيحة حياة لمرحلة جديدة حاضرة، لكنه مسافة بينهما، تتجمع فيها ملامح زمنٍ يستعد للانصراف، ومؤشرات زمنٍ يتأهب للقدوم.
على مستوى القيم القائدة، يلاحظ استمرار اتساع الفجوة بين مواقف (وسياسات) المنظومة القائمة والمبادئ والقيم المؤسسة لها تاريخياً، خصوصاً في ما يتعلق بقيم الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية، أما في ما يتعلق بموازين القوى، فلم تعد كما كانت، فالعالم يتجه إلى نوعٍ من تعدّد وتدافع مفتوح على كل الاحتمالات، وهو ما سيكون له يقيناً أثره على قاعدة المركز والأطراف.
سيلاحظ أي راصدٍ لما يحدث في السنوات القليلة الأخيرة أن ثلاث شخصيات هي الأكثر حضوراً إعلامياً على المستوى العالمي، باعتبار أنهم أكثر من يصنع الأحداث، سواء على مستوى التصريحات والمواقف، أو على مستوى الحركة والفعل في الميدان، وهم الرؤساء، الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان، والصيني شي جين بينغ، والمشترك بين الثلاثة أنهم يرون أنفسهم في أفضل منصّة لصناعة المستقبل، وهم يستندون إلى خلفية تاريخية موحية، وكأنهم بصدد إحياء أمجادٍ كانت لهم في الماضي.
المشترك بين بوتين وأردوغان وشي جين بينغ أنهم يرون أنفسهم في أفضل منصّة لصناعة المستقبل، وهم يستندون إلى خلفية تاريخية موحية، وكأنهم بصدد إحياء أمجادٍ كانت لهم في الماضي
لا يتعلق الأمر بأشخاصٍ فحسب، وإنما برؤى دول وقوى يعبر عنها هؤلاء، وبفواعل صاعدة في ساحات التأثير العالمية، وهذا لا يعني أن الساحة صارت خلواً لهم، لكنهم يمتدون كل يوم في مساحاتٍ جديدة، ويكسبون مع كل حركة ثقة وجرأة وشهية أيضاً، خصوصاً مع تردّد مراكز القوى التقليدية وارتباكها وانسحابها، هم ينطلقون في مساراتٍ متوازيةٍ، ولكل مشروعه، غير أن ما يجمعهم هو تحدّي "الغرب" في مفاهيمه، وفي معاييره، وفي ما فرضه من قواعد منذ عقود طويلة.
لقد أصبحت قدرة "الغرب" على الضبط أضعف مما كانت عليه، على الرغم من أن مكونات القوة الصلبة واللينة ما زالت بين يديه، لكن روح الاندفاع والمبادرة والتحرّك الموزون والمتزن بدأت تخفت لديه، هل هي نبوءة الانحطاط (le déclin) التي توقعها الفيلسوف الألماني، شبنجلر، مع مطلع القرن العشرين تتأكد؟ أم أن المسألة ليست إلا انطباعات رغبوية أكثر منها حقائق يصدقها مسار التاريخ؟ يحتاج الأمر إلى بعض الوقت، وربما بشكل أدق إلى انتظار اتجاه بعض المسارات التي بدأت تتشكل على مستوى العالم، خصوصاً في منطقتين أساسيتين لتقديم إجابات أولية عن هذه الأسئلة. الأولى، الحوض الشرقي للبحر المتوسط الذي يشهد صراع إرادات حاداً، تتداخل فيه العوامل الاستراتيجية والحضارية مع العوامل الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وسيكون لمآل الأحداث هناك تأثير كبير على اتجاه التاريخ، ليس فقط على مستوى هذه المنطقة، وإنما على مستوى أوسع. الثانية على امتداد المحيط الهادي، حيث النزال الصلب بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها هناك وبين الصين، وقد ورد عن وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، قولها: "مثلما كان القرن العشرون قرن المحيط الأطلسي، فإن القرن الحادي والعشرين هو قرن المحيط الهادئ بالنسبة للولايات المتحدة"، فمن يستطيع حسم الصراع لصالحه هناك؟
في الأخير، يبقى للتاريخ منطقه، وله بشكل خاص "مكره". المهم في ذلك كله ألا يشغلنا ضجيج الأحداث عن رصد النبض القوي الهامس لتحولات "التاريخ الطويل".
التعليقات