كثيرا ما نسمع عن قيم أساسية وفطرية داخل المجتمع ، كعشق وطن ما أوفخر الإنتماء إلى أرض ما . هذا العشق الذي تغنى به الشعراء وخط نصوصه الأدباء والذي يمثل الحجر الأساس لأي دولة أو أمة،او ربما لأي بقعة جغرافية تضم تجمعا إنسانيا يجمعه نفس المصير تحت تأثير نفس المناخ ،نفس العادات ورائحة التراب الواحدة ،وقد نجزم بأن الطيور لأعشاشها عاشقة و المواليد لمسقط رأسها محبة ، وان هذه هي الفطرة .

رغم أن الأرض مكان واحد إلا أن التقسيمات الجغرافية جعلت لكل منا أرضا وموطنا، فااختلفت الشعوب وتنوعت الأعراف والأعراق،واختلفت المصائر فصار لكل شعب قصة ،قصة يضرب عمقها جذور شجرة الزمن المخلدة، لتهبنا من لدنها فسيفساء حضارة أمة ، كحضارة الأمة المغربية الضاربة بعمق هويتها شوطا سحيقا في الخط الزمني والمعمرة على أرضنا عدة قرون من زمن الخلود .

فما تركت هذه الأرض حضارة وإلاخطت على جدرانها بصمات وجودها من حضارات شديدة القدم مثل الاشولينية والعاتيرية وإيبيروموريسية،وغيرها من الحضارات الغابرة .حتى بداية التاريخ المسجل بين القرن الثامن والسادس قبل الميلاد ،فتتالت بعدها دول وحضارات حكمت المملكة حتى يومنا هذا.هذه الممكلة التي يعيش بين احضانها شعب مغربي

عرف سكانه بالسخاء و العطاء اذ يهب ابنه مما يملك ومما لايملك، قريبا كان ام غريبا ، أما إذا تعلق الأمر بضيف  أجنبي فيزيداد  عداد الكرم أضعافا مضاعفة .

يتضح أن الأمر إيجابي ولا تشوبه شائبة،غير أنه وربما قد يعكس هذا أحيانا وجهة نظر أخرى و جانبا مستترا يحسه كل منا في سره دون البوح به علنا ،ويتمثل هذا في إسقاط لمشهد ذلك الطفل الخجول الذكي وهو متكئ على حائط ساحة مدرسته وهو يقدم كل ولمجته لطفل آخر،طفل آخر ذا شعبية و صيت عالي بالمدرسة ، لينتهي الفصل ويحين موعد الخروج ويمضي الطفل الخجول في حال سبيله صوب منزله فيجد أمه منهمكة في إعداد مأدبة طعام تحوي أشهى أنواع الطعام المغربي ليقع بصره على الكؤوس اللامعة الراقية والبهية المنظر وتفاصيل صحن الطاووس الأزرق  تتراقص أمامه ،ورذاد نسيم رائحة طبق "اللحم بالبرقوق" تعلن قدوم ذلك الضيف"البراني" والكل ينتظر قدومه لتقدم له كؤوس الشاي مع الترحيبات والحلويات الشهية ممزوجا بضحكات عالية واستثنائية التردد، يراقب الطفل المشهد ويتمنى في نفسه لو كان مكان الضيف ،ليحضى بامتياز الجلوس في ذلك البهو المفروش بعناية ويشرب من تلك الكؤوس الجملية،ويتذوق أحلى وأعذب ما تبدعه أيادي أمه ، ويستفيد من تفهم أبيه وليونته ، وبهجة أمه ورقتها في ذلك اليوم الكبير .

فيتأتى إلى الأذهان ذلك الإحساس العتيق المثوارث والمضمر في قلوبنا جميعا "الآخر هو الأفضل! " هل يستحق الآخر أكثر مما نستحق! إحساس شب وشاب بين أجيال المغاربة الذين كان الكرم ولايزال نمط عيشهم وإن كان على حساب أهل الدار.

    الأجنبي  ...عقدة ام جرح ؟

عند مرور ذلك الغريب القادم من بلاد بعيدة ،تطغى على الأجواء مظاهر التقرب والتزلف والإنبهار ،وتفرات لغوية هجينة تتزاوج فيها اللغة الأم وبعض الكلمات الأجنبية وكأن الجميع يبجل ذلك الحضور اللافت للغريب فتكتسي الأجواء مظاهر الكرم والترحيب والإيثار الدائم والأبدي على النفس ظنا أننا سنلقى إيثارنا في ديار الغير ،إلا أن صفعة خفيفة تأتي لتخبرنا عكس ما نعتقد وأن كل جنس لأبناء جلده يميل ،وأنه لامكان لذاك الإيثار إلا عندنا ، ومع ذلك نستمر في كل مانفعل وكأنه ارث حضاري في ظاهره و جرح تاريخي باطنه،جرح يقارن فيه العربي و المغربي نفسه بالاجنبي عروضا على ركح المسارح الكوميدية ونكاتا شعبية على ألسنة المغاربة تستهجن فعل أبناءها وتستحسن فعل الآخر "البراني"وكأنها عنصرية ذاتية ميكانيكية وليدة جرح هوية خطتها الإستعمارات ذات يوم . وكأنه ذاك الأب  السليط الذي يقنع أبناءه بنواقصهم فتصير مسلمات في أذهانهم ليبقو تحت أمرته وإليه يرجعون. فيصبح الجرح غائرا ويحاكي تمدد الكون اللانهائي .

هذا الجرح الذي فرق وساد بين الأمازيغي والعربي ،هذا الجرح الذي انتشر كنار الهشيم بين دول العالم الثالت بأراضيها العذراء وخيراتها والتي يجمعنا وإياها نفس الألم المكتوم .وان كانت هذه الأوطان مكلومة الشعور بعد هد ه الإستعمارات السالفة ،فإن المغرب مكلوم الجهتين جرحه مطرقة وسندان ،جرحه الأول كان استعمارا اما جرحه الثاني فكان تبعية مشرقية تطمس هويته المكتزة والكاملة الأركان .فنحن هنا لا نتحدث عن مسألة سياسية أو اقتصاديةبقدرما نطرق باب جرح نفسي مكتوم لا مبرر يدعو لا ستمراره . فهذا جرح كان لوجوده مبررا لو كان هذا الوطن وليد القرن أو ربما مكانا جمع شتات أراضيه على انقاض شعب آخر .فالمغرب أمة معمرة خالدة تغوص بأحداثها حتى حقب اركيولوجية اعتلى فيها وجودنا جبل إيغود منذ فجر تاريخ البشر. وإن كان ولابد من هذا الإحساس فل يكن حينها المغرب آخر اختيار تقع عليه أياد القدر .