لا شيء ينتظر، الأشياء غافلة عنا

ونحن نحييها ونشكرها

لكننا إذ نسميها عواطفنا

نصدق الاسم هل في الاسم جوهرها

نحن الضيوف على الأشياء أكثرنا

ينسى عواطفه الأولى و ينكرها

      (محمود درويش)

((اذا لم تكن من محبي السينما أو ترى فيها شراً مطلقاً، أو كفراً بواحاً صريحا، لا أنصحك بمتابعة القراءة)).

**كان العيد في جنين …...سينما**

إضافة إلى الطقوس المعتادة للعيد في السبعينيات من القرن العشرين في جنين (فلسطين) و غيرها، كانت داري السينما بتوأميها (جنين والهاشمي) هي مصدر البهجة والفرح الرئيسي لشباب المدينة وصبيتها. فمنذ ضحى اليوم الأول للعيد وحتى نهاية اليوم الرابع، كنا لا نغادر موقعيهما إلا لظرف طارئ أو أمر جلل، فإما نحن منهمكين بمشاهدة الأفلام، أو لاعبين  لعبة السحبة أو "فوَّرَت" في الساحة المقابلة، أو متناولين وجبة سريعة من الفلافل، أو مستريحين قليلا ريثما يبدأ العرض التالي.

 كانت عمليه شراء التذاكر تكاد أن تكون مهمة انتحارية، لها مختصوها و الماهرون بتنفيذها والمضحون بأنفسهم لإنجازها، ذلك أن الازدحام على شباك التذاكر و التزاحم شديد، فعلى الفدائي الذي يتبرع لذلك الأمر، أن يتقن فن الغوص والعوم والدفع والضرب الصريح و المبطن، فوق الحزام وتحته، وأن يحافظ طوال المعركة على نقوده ونقود رفاقه، و أن يعود بالفكة والتذاكر في نهاية الأمر مهما كلفه ذلك من تضحيات ومناوشات ومناورات من كل نوع.

شباك التذاكر به كوة صغيرة، لا تكاد تتسع ليد الشخص الحامل نقوده بحرص بيد، متشبثا بحديد الشباك بيده الأخرى ليتمكن من الوصول إلى غايته و الحصول على مبتغاه ..."تذاكر"، فيقبض عليها بكل قوة و حرص شديدين، كأنه يقبض على تأشيرة الدخول إلى الفردوس.

عندما يعود الانتحاري رافعاً كلتا يديه ضاحكاً متعرقاً و مشيراً بإشارة النصر و هو مدمي الرأس، و الكدمات تغطي وجهه و آثار الأظافر مرتسمة على جبينه و ذراعيه، و قد فقد أزرار قميصه و مُزِقَ بنطاله و ربما فاقدً لحذائه، كنا نستقبله بالتصفيق و التصفير والتهليل لإنجازه المهمة بنجاح. الازدحام الشديد على شباك التذاكر يخبرك أن كل شباب وصبية المدينة متمترسين أمام شباك التذاكر فلا تسلية لهم في العيد غير  داري السينما  وهما: جنين والهاشمي.

 يبدأ عرض الأفلام في العيد يوميا في سينما جنين قبيل السابعة صباحاً و يستمر حتى المساءً، أما سينما الهاشمي فقد كانت تبدأ بعرض الأفلام منذ الثامنة و النصف صباحاً و بمعدل فيلم كل ساعتين، وهكذا فلا ينتهي العيد حتى نكون قد شاهدنا أكثر من عشرة أفلام، متنقلين عدة مرات بين سينما جنين والهاشمي لنشاهد كل ما تعرض، حريصين على أن لا يفوتنا منها شيء، و ربما  نشاهد بعض الأفلام مرتين أو أكثر. 

لأن الميزانية في العيد سخية وشبه مفتوحة، فقد كنا نستطيع مشاهدة الأفلام بترف أكثر من المعتاد، فقد كان بإمكاننا أن نشتري التذاكر المخصصة للبلكون أو البنوار في سينما جنين، و هي تذكرة أعلى سعرا من تذكرة الصالة والتي كنا معتادين على شرائها في الأيام العادية، فنجلس في منطقة مرتفعة مشرفة فتكون الشاشة بمستوى نظرك ولست مضطراً لتحملق إلى أعلى و أنت جالس في الصالة في الأسفل، فكأن ذلك انضمامٌ منا لطبقة برجوازية أرستقراطية من مرتادي السينما. أما في سينما الهاشمي فليس هناك هذا التقسيم و ثمن التذكرة موحد فقاعتها واحدة متصلة.

لقد تعلقت بالسينما منذ الصغر و طوال العام وليس خلال العيدين فقط، فقد كنت عاشقاً لها حد الهوس و الجنون، فلا يمر أسبوع إلا و أشاهد فيلمين أو أكثر.

دخلت سينما جنين لأول مرة  فشاهدت فيلم الكراتيه "البطل الوحيد" و قد كان عمري لا يزيد عن تسعة أعوام ثم كر الحبل على الكرار،. لذلك ربما أكون قد شاهدت خلال السبعينيات ما يزيد عن أربع مئة فيلم أو أكثر، من كل نوع و صنف: كراتية ل وانغ يو و بروس لي مثل "طريق التنين"، "قبضة الغضب"، "الرأس الكبير" و غيرها، و كذلك أفلام مصرية لرشدي أباظة،أحمد رمزي، حسن يوسف، زبيدة ثروت، سعاد حسني، نجلاء فتحي، محمد عوض، فؤاد المهندس، محمود ياسين و حسين فهمي و أحياناً عادل إمام و سمير غانم، إضافة إلى الأفلام الهندية مثل "قمر أكبر أنطوني"، "الفيل صديقي"، "بوبي"، و أفلام شاشي و راجي كابور و أميت باتشان الذي كان فتى الشاشة الهندية الأول و كان حلم الفتيات و المراهقات،  لقد شاهدت حتى الأفلام التركية و اللبنانية و السورية كأفلام دريد لحام وهاني الروماني و أديب قدورة وغيرهم. و كذلك سيل من الأفلام الأمريكية خاصة أفلام الكاوبوي مثل أفلام كلينت ايستوود و بول نيومان و جون واين، و غيرهم.  

طبعاً معظم هذه الأفلام بسيطة وسطحية و تجارية، لم  نكن ندرك ذلك وربما لم يكن يعنينا بشيء، فنحن نعشق التجربة وما يرافقها من طقوس وعادات، و نهوى الاكتشاف والمغامرة، و معايشة الحلم في قاعة السينما المظلمة، لاشيء مضيء فيها سوى الشاشة و حزمة خيوط أشعة ملونة تمر فوق رأسك من أقصى و أعلى القاعة فتمتد إلى الشاشة فتصور لك الحياة كلها على سطح مستطيل ابيض.

كانت من أجمل لحظاتنا في القاعة، أنه عندما يقترب الفيلم من نهايته، و تخف مراقبة حامل كشاف الإضائة ( المراقب) للجمهور و مشاغباته، كنا نمرر يدنا لتعترض حزمة الأشعة المارة فوق رؤوسنا خاصة، فتظهر صورة كف اليد على الشاشة و تلك متعة كبرى.

هناك بعض الأفلام التي شاهدتها لم يكن بتلك البساطة والسوء،بل كانت علامة فارقة في تاريخ المتابعين للسينما في جنين من بينها أفلام مثل العراب و (,For a few dollars more ،Good, bad and Ugly،الفكJaws ، طارد الأرواح Exorcist " والذي لي معه ذكرى لا تنسى" و كذلك فيلم "21 ساعة في ميونخ" والذي لقي نجاحاً باهرا عند عرضه في سينما جنين، و لم نكن ندرك أنه مروي من وجهة نظر غربية معادية فهو يتحدث عن عملية أوليمبياد ميونخ عام 1972، فكان كل همنا أن نشاهد أي شيء يتعلق بفلسطين و فدائيي فلسطين. ولا زلت أذكر كيف أن القاعة ضجت بالتصفيق والتهليل عندما ظهر  أفراد الكوماندوز الفلسطيني لأول مرة في الفيلم مرتدين بدلات رياضة برتقاليه و هم يقفزون فوق الشبك الحديدي المحيط بالقرية الأوليمبية وهم يحملون حقائب فيها ما فيها. و أخيرا كان هناك فيلم الرسالة الذي ظل معروضا في سينما الهاشمي لما يزيد عن أربعة أسابيع متواصلة و هو رقم قياسي في حينه.

مشاهدة الأفلام في سينما جنين كان يصاحبها دوماً شخصيات و طقوس جانبية، مثل المراقب الذي يرشد الناس إلى المقاعد الفارغة و يحمل كشافا صغيرا، و قد كنا نهابه و نتعامل معه على أنه ضابط شرطة أو قائد عسكري، فهو صاحب القرار و رجل الضبط و الربط في قاعة السينما، كذلك البائع المتجول بين صفوف المقاعد والذي يظل ينادي (عسيس، ساندويشات، تروبي كولا، بزر، و ...دخان)، فكانت تلك الطقوس بمثابة الملح في الطعام، لا غنى عنها، فما بالك إذا أضفت لها ساندويش نقانق Hotdog من دكان السينما أو حتى ساندويش فلافل؟؟؟ أذكر أن ذلك الساندويش و الذي هو عبارة عن نصف رغيف خبز جنيني صغير به حبة فلافل أو نقانق واحدة مقسومة إلى أربعة شرائح مع شريحة بندورة لا يزيد سمكها عن 10 مايكرون، و شريحة خيار مخلل تكاد ترى الشمس من خلالها أو غرامات من اللبنة، مع كثيراً من الشطة فيخفي عيوب النقانق أو الفلافل، و مع كل ذلك فقد كنا نشعر بعد تناولنا إياها أننا قد بلغنا المشتهى من المتعة والسرور، و أننا ارتكبنا فجوراً و تنعماً عظيماً يجب التكتم عليه أمام أهالينا.

شكلت سينما جنين لدي حالة عشق، و تماهيت وتفاعلت مع هذا العالم الساحر فنمى و تطور لاحقا ليكون عشقي الثاني بعد القراءة، و ما زلت مدمنا على السينما، و متابعتها والتأمل بها و بقصصها و حكاياتها المبهرة وعالمها المبهر و أسرار الإبداع فيها، و لكني صدقا أقول أن الأفلام تفقد معظم ألقها وجمالها إذا لم تشاهدها في قاعة كبيرة و على شاشة بيضاء وفي قاعة معتمة، و بنظام صوتي متكامل، خاصة أن  الصوت و الموسيقى ركن أساسي في سحر وجاذبية الفيلم السينمائي الناجح، فأنت تحتاج إلى بيئة محيطة مختلفة تعزلك عن الواقع اليومي، حتى تستطيع أن تعيش الحلم و تقبض عليه، فتغذي قلبك و عقلك بأكسجين الحلم و الخيال الضروري لمتابعة المسير في معاركنا الحياتية.

مضى ذلك الزمان و انطوى و تبدل، و أصبح في المدينة ألف مكانٍ و مكان لقضاء الوقت و التسلية، و هدمت صالات السينما و شيدت مكانها المباني و الأبراج التجارية، ليس في جنين فحسب بل في العالم كله.

في جنين اختفت سينما الهاشمي و هدم مبنى سينما جنين و شيد مكانه برج تجاري، لم تتح لي فرصة أن أشاهد فيلم في قاعة سينما منذ ثلاثين سنة، و أظنها لن تتاح، لذلك آثرت أن أستعيد ذكرياتي وأقتات عليها و على أحلامي الصغيرة الأخرى و أيامي البعيدة رغم بساطتها وسذاجتها و طيبتها الزائدة. أليس علينا أن نحرص على أحلامنا الصغيرة ما دمنا لا نحقق أحلامنا الكبيرة؟؟؟؟.

محمد نايف جرار- أبو المجد / جنين/ 22/7/2020