إن معرفتنا وفهمنا للعالم الخارجي غالبا ما تستمد من حواسنا وتجاربنا الإنسانية، لتكتمل صورة هذا الإدراك وهذا الفهم المعمق لسيرورة الواقع.
غير أننا نجد أنفسنا أحيانا أو ربما غالبا أمام نوع آخر من الإدراك والإحساس بمسلمات حدسية لم تطئ بعد أقدامها الأرض ، ولم تعرف الحجج والبراهين لها طريقا، فتصنف في خانة الحدس ،هذا الحدس الذي يصنف على الأغلب كتجربة روحية غير مفهومة ،إلا أنه خلاصة معرفة مسبقة وتجارب ثقافية مبنية على التفكير الغريزي ليس إلا .
فإدراكنا لهذا العالم عبر الحدس يدل على استجابتنا وربطنا الغير المباشر لهذه المعرفة المسبقة الناتجة عن تجارب متشابهة ،دون مجهود فكري مما يعطينا الشعور بالألفة المستمد من تجربنا أومن تجربة الآخر أو من سلسلة تجارب ورموز تتعلق بما يلقاه جميع البشر من تجارب بشكل مستقل عن فردانيتنا .
إذ يتشكل بهذا اللاوعي الجماعي والذي عن طريقه تتناقل الأفكار والحكم عبر العصور .
قد تكون الحكم والأمثال الشعبية اختزالا بسيطا لمثل هذه الأفكار أو الحالات الإدراكية الغير المباشرة والتي تتم عبر المعارف السليقة للآباء والأجداد والتي تلتقي مع السلوكيات الشعورية واللاشعورية كما ورد في دراسة "خفايا الأمثال" لدكتورة هالة إسبانيولي . وكما ورد أيضا في نظريات اللاوعي الجماعي لكبار علماء النفس ،فهي تجارب رافقت الإنسانية وتجاوزت مفاهيم الموت والحياة فصارت تجربة ذهنية مشتركة بشكل مستقل عن التاريخ وثقافة المجتمعات والتي وصفها كارل يونغ بالطبقة التحتية التي تجعلنا نفهم عدة خصائص تجمع الأشخاص الذين لا ينتمون لنفس الثقافة . و التي لا يمكن أن تترأى لنا الا عبر الفن والأساطير والأديان وقصص الأطفال والأمثال والحكم المتداولة التي نلمس طفرتها عبر ظهور مصطلح "الميمز" الشهير. و الذي يعبر عن تلك الفكرة أو المزحة التي تأخد شكل صور ومنشورات أو مقاطع كوميدية لمحاكاة والسخرية من الواقع اليومي ، والتي تعود تسميتها لعالم الأحياء البريطاني ريتشارد دوكينز في كتابه "للجين الأناني"،الذي شبه فيه القدرة التكاثرية للأفكار بقدرة تكاثر الكائنات الحية . ليطلق عليها اسم المميمز فيما بعد.
إذ يزيد نشاطها وتطورها بتطور الأزمات لتستنسخ نفسها مثل الجينات، بوصفها وحدات ثقافية "ترندية" تتخطى الفوارق الجغرافية ،مما يساهم في ظهور أفكار ومعتقدات وردود أفعال وخلفيات فكرية متشابهة تشكل خلفية اللاوعي الجماعي الجديد، مما يسهل عملية انقيادنا تحت تأثير الإيحاء الجماعي ،الذي يلعب دورا كبيرا في تشكيل السلوك الفردي والجماعي في ذات الآن.
تتطور المعارف المشتركة اللاواعية الموسومة بالحدسية مع تطور المفاهيم والتجارب الإنسانية الجديدة لكل فترة زمنية لتعاصر الخلفية الذهنية لكل مجتمع وتنتقل من الأقوال المأثورة المتداولة إلى "ميمات" منشورة يتبادلها الأفراد لتخفف وطأة المواقف الدسمة الثقيلة ،وتنقل فكرة موقف إنساني ما، بمحاكاتها السريعة و الجديدة.
التعليقات