بقلم:ماجد عبدالرحمن عاطف - اليمن
كلما أردت البكاء يصيح أبي في وجهي.
- «صه، الرجال لا يبكون».
كتمت بكائي.. أرجعته مراراً إلى معدتي لتهضمه بصمت، فهي المكان الوحيد الذي أسقط فيه بكائي الممنوع، فأحسّ وجعاً يسري في شراييني. ومراراً أردت البكاء عندما لا يكون أبي موجوداً في المنزل، فتصرخ بي أمي:
«صه أنت رجل والرجال لا يبكون».
فأجبت مبرراً كما كان يقول أبي: البكاء للضعفاء ووحدهن النساء هن الضعيفات.
شعرت بالغبط نحوهن، وتمنيت لو أن الله خلقني امرأة. رأيت أبي ذات ليلة مقمرة يجلس وحيداً، فسألته: لماذا وحيداً يا أبي؟
أجابني وهو ينظر إلى القمر: أتأمل القمر الذي يبتسم دائماً.
سألته: هل القمر يبكي يا أبي؟
أجابني بنبرة معلم: القمر لا يبكي.
رددت بنبرة التلميذ الذي فهم درس معلمه، إذن القمر رجل أليس كذلك؟
أحسست أني بدوت رجلاً في عين أبي، فأمي وحدها تبكي وأختي وكل النساء، ظللت أرى أبي ينظر إلى القمر بصمت كأنه كان يتعلم منه أشياء أو يبوح له بشيء.
كبرت وأنا لم أبك قط. أختي هي التي كانت تبكي فرحاً وحزناً وعناد، لتستحوذ على أشياء تريدها.
سألت أختي في يوم زفافها: لم البكاء؟
أجابتني: نبكي عندما تستيقظ أوجاعنا، نبكي عندما تولد أفراحنا، نبكي لنحيا من جديد.
أذهلتني فلسفتها، قلت: مَن علّمك كل هذا؟
أجابتني وهي تبكي: كثرة البكاء.
نظرت إليها، قلت لها: أريد أن أبكي، نظرت إليّ نظرة استصغار قائلة:
- «الرجال لا يبكون».
قلت في نفسي لعلها ستأتي فرصة أبكي فيها، وتذكرت أنه سيموت أبي وأمي، وسأبكي بالتأكيد، كم تمنيت أن يموت أحدهم قريباً.
تزوجت، ولدت زوجتي ولداً، خرج يبكي، صرخت في وجهه.
- «صه.. الرجال لا يبكون».
صمت ولم يبك.
ماتت أمي، بكت أختي وكل النساء، أتت الفرصة التي ستمنحني البكاء، جاء المعزون فقالوا لي ولأبي: «الرجال لا يبكون».
لكني سمعت معدة أبي تهضم بكاؤه المدفون فقلت له: «صه.. الرجال لا يبكون يا أبي، النساء وحدهن مَن يبكين».
كبر ابني ولم يبك قط، وسألني ذات مرة ونحن ننظر إلى القمر:
- هل القمر يبكي يا أبي؟
أجبته: القمر لا يبكي، القمر يبتسم دائماً.
ردّ علي: إذن القمر رجل أليس كذلك؟
مات أبي، بكت زوجتي وأختي وكل النساء. أتت الفرصة التي سأبكي فيها.
أتى المعزون فقالوا لي ولابني: «الرجال لا يبكون» لكنني لم أستطع أن أمنع دموعي الملوبة قروناً في أجفاني من السقوط. أو أمنع بكائي المترسّب طويلاً في أوردة الروح، احمرّت عيناي، بدأت الدموع تتهيأ لمغادرة عيناي بشوق، بدأ بكائي الأزلي يتسلل بحياء نحو الخارج، كان ابني يتأملني ليصرخ في وجهي.
« الرجال لا يبكون يا أبي».
التعليقات