لقد كانت الكلمات ولازالت ولع الإنسان وشغفه الذي انكب عليه وسخر لأجله وقته وجهده وأحيانا كثيرة حياته نفسها.
نولد كائنات لا تنطق، فينتظر الكل أول كلمة تخرج من أفواهنا الصغيرة ليحتفلوا بنا وبها ويباركوا هذه النعمة العظيمة، نعمة الكلام. ونصاب بالذعر إذا تأخر طفل عن موعد إنتاج الكلمات وتكوين المفردات. وكأننا نخشى عليه لعنة الصمت ومصيبة العجز عن ترجمة وجدانه لجمل.
تغير الكلمات أقدارنا، وتبدل مزاجنا وتتصرف بمصائرنا. نبخع لها عندما تصيب كبد حقيقتنا ونهرب منها عندما تحاول استنزاف أمننا، نعشق أناسا لجمال كلماتهم ونكره آخرين لسوئها، ونبحث عن صاحب الكلمة الألطف والأعمق فنبتاع كتبه بلهفة وحماس، نقرؤها ونزين بها أركان بيوتنا.
كلمات الأنبياء كانت نجاة لأتباعهم، وكلمات الفلاسفة كانت حيرة لطلابهم، وكلمات الأولياء كانت ملاذا لمريديهم، وكلمات المستبدين كانت جحيما لشعوبهم. تخرج الكلمة من الحلق فتجد مكانها بين الخلق، تبني بعضهم وتهدم آخرين. تنقذ البعض وتغرق البعض، تمارس سطوتها وسلطتها. ترحم هنا وتعذب هناك.
تسمع كلمة يلقيها أحدهم في الشارع فتحملها معك إلى بيتك، تدخلها عالمك وتمنحها ركنا من دماغك ينشغل بها وبمعناها وبالقصد من ورائها، تكتشف أنك حملت معك الغريب لبيتك عبر كلمته. وتتزاحم عندك الكلمات يوما بعد يوم، ثم يزدحم في دماغك الغرباء تفكر في ما نتج عن أحبالهم الصوتية. كلمات تزرع فيك الخوف أحيانا والسلام أحيانا أخرى، تمنع عنك النوم تارة وتمنحك الثقة تارة أخرى. فتدرك، مع زحف الشيب والخيبات وتوالي الهموم والمباهج، أن الكلمات مخلوق قائم بذاته يستطيع تحديد مصيرك والتحكم بمزاجك.
كلمة قد ترفعك لأسمى مراتب اليقين وأخرى قد تهوي بك لمنحدر الشك السحيق. وأنت المتلقي والمتكلم، تشارك في صنع يوم غيرك ويصنع غيرك يومك.
ننتج آلاف الكلمات كل يوم، نتبادلها مع من نحب ومع من نكره، مع المقربين والأغراب. ثم نمضي فنترك الكلمات وما نطقناه شاهدا على مرورنا، يحفر أثرنا في الصدور والصخور إلى الأبد. لا نكترث ولا يُكترث بنا، نوزع الجمل غير آبهين بما تفعله وما تتركه وما تصنعه. ويُفعل بنا الشيء نفسه. إلى أن تشيخ أرواحنا من ثقل الكلمات وسطوتها. فتصبح إنتاجات الآخرين الصوتية وحشا مرهقا نتجنبه بكل حذر وإصرار.
يفنى العمر ولا تفنى الكلمات، فيستلهم الأحياء كلمات الغابرين والفانيين ممن شبعوا موتا وصاروا عدما في عدم. فلا تعود كلماتهم ملكهم مهما ختموها بحقوق الملكية وبراءة اللفظ، بل ملك من عثر عليها كائنا من كان.
تخرج الكلمة فلا تعود أبدا، ولا تتدارك أبدا ولو توهمنا العكس، كالرصاص الحي الذي لا يعود لبندقية صاحبه مجرم الحرب مهما خضع لجلسات العلاج نفسي. الكلمات أقوى من صاحبها، وأبقى. يفنى الإنسان وتخلد الكلمات.
كلماتنا أسلحتنا التي لا تحتاج رخصة حيازة. تقتل وتحيي، تبكي وتضحك. نستهلكها دون انتباه، ونطلقها دون تردد، فتكون علاجا هنا وسقما هناك. غايتنا منها التنفيس عن وجدان مرهق وتبرير علله وهفواته. وخيبتنا عندما تتحول وسيلتنا في فك شيفرة روح حائرة لقنبلة تحرق كل من بلغت مسامعه.
التعليقات