“في حياة كل إنسان لحظة لا تعود الحياة بعدها كما كانت قبلها”.. هذه أحد أشهر اقتباسات الكاتب أو كما يسميه قراؤه العراب “أحمد خالد توفيق”، كثيراً ما ترى آلاف المشاركات لهذه العبارة على مواقع التواصل الاجتماعي، وإذا دفعك الفضول للضغط على زر بيان هذه المشاركات سترى كل شخص وهو يؤكد معنى هذه العبارة من خلال تجربته.. منهم عندما قرر مغادرة الوطن أو عندما فقد أمه وهو طفل، أو عندما قرر الإنجاب في مثل هذه الظروف الاقتصادية أو حتى من قرر الزواج، كلها أحداث مهمة وقرارات مصيرية تتناسب مع معنى العبارة، ولكني من الأشخاص الذين يرون بُعداً أكثر بساطة لهذه الجملة، فتلك اللحظة التي يتحدث عنها الجميع تجلت بالنسبة لي عندما قررت لأول مرة تأمل ذلك العدد ذي الغلاف الغريب المُسمى بـ”أسطورة رعب المستنقعات”.

كنت وقتها في المرحلة الإعدادية وغارقة حتى الثمالة في علاقة حب من طرف واحد مع “أدهم صبري” كأي مراهقة من مواليد التسعينات وقتها، فهو الوسيم القوي الشجاع الوطني المتدين الذي يهزم أعداءه جميعاً بقبضته الحديدية في جزء من الثانية، هو الذي تهيم به فاتنة مثل “سونيا جراهام”، ولكنه لا يعيرها انتباهاً؛ لأن حب “منى” زميلته يمنعه، فهو رومانسي و(تقيل) أيضاً كما ترون.

حتى جاءت اللحظة التي أنهيت فيها قراءة كل أعداد أدهم صبري التي أملكها، ولكن نهمي للقراءة لم ينتهِ بعد ولا بد من شيء يسد هذا الجوع، إذاً لنجرب “رعب المستنقعات” هذه لعل وعسى أرى “أدهم” آخر هنا يعوضني عن اشتياقي لذلك الوسيم الذي يسيطر على عقلي.

ما إن فتحت العدد حتى وجدت شخصاً يصف نفسه بأنه يرتجف كذيل حية الجرس من المرض، وأن طبيبه الذي هو من تلاميذه لم يعد مهتماً بعلاجه على اعتبار أن رحيله وبقاءه لم يعد يهم كثيراً، على الرغم من الغرابة التي شعرت بها تجاه ما قرأته، فإنني وجدت نفسي أجهز سريري وأخفض الإضاءة وآخذ العدد في أحضاني وأتدثر بين الأغطية لأكمل قراءتها، ثم وجدت هنا ما لم أجده في حياتي منذ أن بدأت أقرأ قصص “المكتبة الخضراء” و”المغامرون الخمسة” ومغامرات “تان تان” ومجلات “ميكي” أثناء فعاليات مهرجان القراءة للجميع الذي كان ينطلق في إجازة الصيف آنذاك، فالبطل هنا ليس وسيماً ولا مفتول العضلات، مثل أي بطل رواية يحترم نفسه،

لا يتمتع بالمكر والدهاء البوليسي المعروف به “تختخ”، ولا رومانسية أبطال قصص “زهور”، ولا حكمة ورجاحة عقل “الملازم نور”، ولا طفولة بطوط وأبناء أخيه، ولا حتى قدم لنا الخيال العلمي البحت كالذي قرأناه في سلسلة “نوفا”، فهو عجوز وملول وعصبي ومريض بجميع أنواع الأمراض وساخر من كل شيء، وأولهم نفسه مع ذلك لا تستطيع أن تترك قصته من يدك، من الممكن أن تحدث الزلازل وتنفجر البراكين وتداهم الشرطة منزلك، وتتشاجر والدتك مع إخوتك جميعاً، وأنت ما زلت في مكانك ممسكاً للعدد بتركيز في راحة يدك، وعلى وجهك تلك الابتسامة التي لا تعرف إذا كانت ابتسامة سعادة؛ لأنك تمكنت أخيراً من الظفر به بعد ما ألححت كثيراً على صاحب المكتبة ليشتري لك السلسلة كلها،

أم أنها الابتسامة التي تعقب الضحكات القوية التي تصل صوتك للجيران عند قراءتك لإحدى فقرات رفعت وهو يسخر من نفسه ويلعن حظه، أم هي ابتسامة الرضا عن الحياة والموجودات التي تنتابك لمجرد وجود “رفعت إسماعيل” معك، فهناك من يشبهنا في هذه الحياة، يحيا معنا على نفس الكوكب، إنه مثلنا يحب الوحدة ويكره ازدحام البشر ولا يشجع الزواج ويخاف من مسؤولية الإنجاب، ولا يخجل من الاعتراف بهذا.

هناك من يكره تطفل الجيران ومحاولات الأصدقاء الدائمة لإيجاد العروس المناسبة مع سيل من تلميحات “مش هنفرح بيك بقى.. مش هنشيل عيالك بقى”، هناك من أحب ولم يتزوج مثل ما حدث مع كل قصص حبنا الفاشلة، هناك من فضل حياة الترحال والمغامرات على أن يصحب حماته إلى دمياط لشراء الأثاث، فعيوبه وغرابة أطواره تمثل ضعفنا، ونرى فيها عيوبنا، فما من أحد من قراء رفعت إسماعيل إلا وهتف في سره أثناء القراءة (وأنا أيضاً أشعر بنفس الشيء)، عندما يتحدث رفعت عن وحدته أو عن أسباب تأخره في الزواج، أو عن رغبته الدائمة في الانطواء والعزلة بعيداً عن البشر الطفوليين.

هذا الشعور الذي بالتأكيد لم تشعر به وأنت تقرأ “لأدهم صبري”، وإن شئنا إنصافاً فلنقل إننا كنا نشعر بالفشل والإخفاق كلما طالعنا إحدى مغامراته، فنحن لسنا في وسامته ولا ذكائه ولا حب الجميع له، لا توجد في حياتنا زميلة عمل برقة “منى” ونهيم بها حباً ولا فاتنة مثل “سونيا جراهام” تحبنا من طرف واحد ونتعمد تجاهلها، لا نتقن أي لغة على الإطلاق ولا نستطيع هزيمة خمسة رجال مدججين بالسلاح في جزء من الثانية في الحقيقة، نحن نشعر بأن “أدهم صبري” لا يمثلنا منذ أن بدأنا قراءة له، ولكن لسبب ما غير معلوم لم نستطِع البوح بذلك علناً يجوز لأن مثاليته كانت تشبه تلك المثالية المفروضة علينا وقتها، يجب أن نحصل على كل الدرجات النهائية في جميع المواد، ونكون من الأوائل، ويجب أن نختم حفظ القرآن بالتجويد، ولا بأس بالحصول على حزامين أو أكثر في “الكاراتيه” أو “التايكوندو”، وهذا كله بالطبع لا يتنافى مع أخلاقك في المدرسة التي يجب أن يشيد بها الجميع، تلك المثالية التي لا علاقة لها بالواقع، ولكنها موجودة بالكامل في شخص “أدهم صبري” الذي ليس له وجود.

أما “رفعت إسماعيل” فقد حطم لنا أغلال المثالية التي يجب أن نتصنعها هذه، فهو من أحببنا في عيوبنا لمجرد أنها تشبهه، هو من علمنا أن الإنسان بوسعه أن يكون نحيلاً وضعيفاً وعليلاً، ومع ذلك يخرج من أزماته ومواقفه الصعبة بفضل ذكائه وسرعة بديهته، هو من علمنا أنه يجوز أن يضطهدك جارك أو يتضايق المقربون من غرابة أطوارك أو تظن زوجة صديقك بك الظنون، فأنت لست محور الكون لتجمع المجرات والكواكب كلها على مدحك وحبك، هو من علمنا أن السفر عادة ما يكون أفضل من الزواج والاستقرار، وأن الثقة بالنفس أهم من الوسامة والعضلات، وأن كون المرء ساذجاً تصنع له حياة مليئة بالمغامرات يتمنى أن يعيشها أي حد.

لا توجد كلمات امتنان وتقدير في هذا العالم بوسعها أن تشكرك أيها العجوز، ليس فقط على المتعة والمغامرات التي اصطحبتنا فيها معك، ولكن على أنك كنت موجوداً دائماً عندما خذلنا الآخرون، لم نلجأ إليك في لحظات ضعفنا وحزننا قط إلا وسهلت علينا الأمر... في فيلم “The Fault in Our Stars” كان هناك كلمة سر بين البطل وحبيبته، ما إن يقُلها أي طرف للآخر حتى يبتسما وينسيا لوهلة ما يشعران به من أوجاع مرضهما.. لا يفهم هذا الشعور سوى من فلتت منه بالخطأ أحد مصطلحات رفعت في أي جلسة له وسط زملاء العمل أو الدراسة أو حتى في تعليق على مواقع التواصل الاجتماعي، ولاحظ أن هناك من فهم عبارته، فتأكد أن هذا المشهد هو مقدمة لصداقة متينة ستدوم لسنين يتخللها الكثير من تبادل وسرقة القصص فيما بينهما مع استرجاع دائم للتشبيهات الذكية التي لا يفهمها سوى من تخرجوا في نفس مدرسته،

وكأنها شفرة ما لا يفهمها سوانا فأصبحنا مثله نفرح كالخنزير الذي يلهو في بركة وحل أو كالدودة في مقبرة جماعية وعندما نشعر بسماجة شخص ما نقول إنه لزج كالمصيبة، وما إن نرى شخصاً شره التدخين نشبهه فوراً بالأتوبيس الحكومي العتيق أو كبرلين حين دخلها الحلفاء، أصبحنا نتملص كالحنكليس الذي لا نعرف ما هو، وندخر زياً ما للمهام الذي ينبغي أن نظهر فيها بكامل أناقتنا على غرار بذلتك الكحلية التي تجعلك فاتناً، أصبحت كل واحدة فينا تحسد حبيبتك الأسكتلندية التي تمشي على العشب دون أن تثني عوداً ونتساءل سراً:

ترى هل يوماً ما سيحالفنا الحظ ونرزق بحب هكذا؟ هل يمكن يوماً ما أن نختم محادثة رومانسية ونحن نعاهد بعضاً على البقاء للأبد وحتى تحترق النجوم؟ كنت أنت نسختنا الأصلية من البرنامج الخيالي (OS1) المذكور في فيلم (Her)، فمعك نفقد الشعور بالزمان والمكان وحتى الشعور بالخجل من الضحك فجأة وسط الجموع أو الإحراج من حجم القصة الصغير أو شكل غلافها الطفولي.

فيا أيها العجوز الثرثار يا عصا المكنسة الصلعاء، يا مَن علمتنا حب الأكسجين وكراهية ثاني أكسيد الكربون إلى متى سأظل أخبئ آخر عدد لك يا صديقي ومدخرة إياه ليوم أكثر عبوساً حتى تهربني معك في عالمك السحري؟.. إلى متى سأظل أعيد قراءة مغامراتك مع “عزت”، حين ظننته آكل لحوم بشر ومغامرتك مع حبيبتك عندما جاءت لمصر للاحتماء بك من شبح يهددها ومغامراتك مع أصدقاء طفولتك لكشف سر البيت المهجور الذي لعبتم فيه في الصغر، وتلك الليلة التي قضتها أنت وأصدقاؤك في بيت الدكتور سامي، وشرعتم في سرد الحكايات المرعبة حتى إن الرعب نفسه كان أحد الضيوف.. ويمكن أن أظل هكذا إلى الغد أسرد في ذكريات أعدادك السابقة.

إلى متى سأظل رافضة لقراءة ختام السلسلة لأني لا أتحمل مشهد احتضارك؟.. إلى متى سأظل أتهرب من المرور بجوار بائع الكتب؛ لأني لا أريد قراءة أي شيء بعد أن رحلت؟

فيا صاحبي الوحيد، أيها الأعز الذي لم نعهد منه بخلاً في مشاركة مغامرته معنا.. أما آن الأوان أن تعيد النظر وتخرج لنا أي حكاية منسية نسيتها في جعبتك؟.. لنرجع مرة أخرى نلتف حولك ونحن دافئون في فراشنا نحتسي الشيكولاتة الساخنة؛ لتبحر بنا إلى عالم بعيد عن كل هذا الهراء المحاط بنا.. منذ متى صرت قاسي القلب هكذا؟

المصدر huffpost.com