القراءة الغزيـرة هي الطريق الوحيـد الذي يجعلك تعيش مئات الحيوات الاخرى التي لن تعيشها .. وهي البناء العقلي المستمر الذي تبنيه ، لتستطيـع فهـم الوجود وطبيعة الأشياء - على حقيقتها - بشكـل صحيح ..
إلا أن لها عيــوبها أيضاً .. كأي شيء في الحيــاة ..
- مأساة القراءة الغزيـرة أنها تعزلك عن الواقع تدريجيـاً .. ستبدأ بمرور الوقت في الشعـور أنك قادر على التفاهم مع ديكينــز ، وتشارلز دارون ، وعبد الوهاب المسيـري ، ومُصطفى محمود ، بل وربمـا تفتح معهم حوارات تخيّليــة في عقلك طوال الوقت ..
في نفس الوقت ، وعلى الناحية المقابلة ، ستبدأ بالشعــور بالعجــز وعدم القدرة على التفـاهم مع ما ستعتبــره بحــراً من السذاجة والجهــل والبساطة والتدنّي المعرفي يحيط بك طوال الوقت ، " لأنك أصبحت في مستوى أعلى عقليـاً من الآخرين بعد قراءاتك الغزيــرة "..
فتبــدأ مرحلة الإنسحــاب الحتمي من المُجتمع ..
تخيّــل أنك تجلس لساعات طويلة تقــرأ كتب وروايات لـ " جورج إليــوت " أو " إميل سيــوران " أو " تشيكــوف " ، وبعدها تجد نفسـك مضطـراً للنزول الى شارع أقصى مفهوم للثقافة العامة له هو مطالعة الصحف .. وما يستتبعها من طرق نقاش بدائية ، غير منطقيـة ، لا علاقة لها بما قرأته وفهمته وخبـرته ..
فضـلاً أن المجتمع حالياً - بشكـل عام - يزخــر بكـل أنواع الحيـاة التي لا تمتّ لثقافتك وقراءتك بأي صلة .. سواءً في نوعية الأغاني التي تسمعها ليل نهار ، أو طبيعة التعامل ، او طبيعة اختيار الألفاظ ، أو طبيــعة الفهم وخوض الموضوعات..
وقتئد ، حتماً ستكـره الحيــاة الواقعيّــة بكــل عناصــرها وتبدأ تخلق عالمك الخاص .. وفي المقابل ، الحيــاة الواقعية بكــل عناصــرها ( الناس - الأصدقاء - كبار السن - المجتمع ) سوف يتبـادلون معــك الكراهية ، ويتهامسـون عليك أنك مغــرور ومُتعالي وغريب الأطوار ..
- اذا كنت ترى في نفسك هذا النموذج .. أو بدأت تشعـر بهذا الشعـور ( التعالي على المجتمع ، والرغبة الدائمة في الإنسحاب الكامل عن كل ما له علاقة بالحياة العامة ، والتقوقع على ذاتك وقراءاتك فقط ) ..
فنصيحتي الصادقة لك أن تتخلص من هذا الشعور بقدر الإمكــان ، ولا تستسلم لفكـرة إنك ( Geek ) ولديك عالمك الخاص ، وأن العالم الخارجي مليئ بالشــرور والهمجيــة والغبــاء - حتى لو كانت هذه الفكـرة صحيحة بالنسبة لك - ..
لسببين ، الأول شخصي والثاني مُجتمعــي :
السبب الشخصي :
هو أن المُستريح فى الحيــاة فعلاً هو الشخص الذي يستطيع الجمع ما بين كتابات " جورج إليــوت " في غرفته ، والاستمـاع لأغاني على شاكلة " حارة الحمبــوكشي " في الشارع ، ويتظــاهر انه يحيــا حياة طبيعية وبشكـل تلقائي ، وغير مُندهش من الهوّة الحضارية الضخمة التي بتكرر أمامه طوال الوقت ..
السبب المُجتمعــي :
هو أنك إذا كنت قد بلغت هذا القدر من الثقافة .. فالواقع انك أنت تحديداً الأمل الوحيــد في إصلاح هذا المُجتمع ثقافيــاً ، عندما تندمج معــهم ، وتسرّب لهم بالتدريــج كتب تنويريــة ، وتسمّعهم بعض الموسيقى الكلاسيكية الراقية ، وتخبرهم ببعض مبــادئ الحيــاة العصــرية ، وتنصحهم بمشـاهدة أفلام هادفة ، وتطوير نفسهم ، إلخ..
بإختصـار ، مفهوم التواضع ليس ( إجتماعياً / مادياً ) فقط .. التواضع يشمــل النواحي الثقافيــة أيضــاً .. حتى لو كـان مؤلماً وصعــباً ومُستفــزاً وثقيلاً على النفس والروح !
نصيحتـي أن تجعل الكتاب وسيلة لفهــم الواقع وتغييــره للأفضــل .. وليس وسيلة للهــروب من الواقع الى الأبد ..
التعليقات