في مجتمع حسوب الرقمي، طُلب مني أكثر من مرة، أن أقوم بالمساهمة في قسم (اسألني) لما لمسه القراء فيّ من خبرة لا أنكرها وباع طويل في تجارة الكتب، وكتابتها، أو اقتنائها على المستوى الشخصي. وهذا جعل لي خبرة ذات بعدين؛ بعد تجاري، وآخر فني، نُفضل الأخير بالطبع،، ومن موقع الكاتب، والناشر، والقارئ، والناقد، اعرض لكم، المعايير العشرة الرئيسية التي تجعل لأي كتاب قيمة (مع التركيز أكثر على النصوص الأدبية).
1-عدد القراءات والتفاعلات
أقوى المعايير النقدية وأكثرها نجاحا في وقتنا المعاصر، قيمة رياضية مرتبطة ارتباط وثيق بمعدل تدفق الأموال، وما يتبعه من تداول كلامي على المنصات الرقمية والمدونات الورقية (وربما في الشارع أيضا). عبارة (الأعلى مبيعا) تعنى أن هناك عدد كبير من القراء قاموا باتخاذ قرار للتخلي عن جزء من أموالهم (جزء غير ضئيل في ظل الارتفاع المتزايد لأسعار الورق) من أجل اقتناء أو شراء كتاب ما لمؤلف ما. البيانات تساوي نقديات، وأقصد النقد العملة هنا، أي المال، ولكن يعيب هذا المعيار أن مؤشراته ملعوب فيها، وفي أحسن الأحوال لا يُكشف عنها، فلا نعرف عدد نسخ الطبعات للدار الواحدة (قد يقول 5000 آلاف نسخة) في الواقع قد يكون ألف نسخة، والطبعة الخامسة معناه أنه باع هذا العدد، لكن يحاول أن يوحي بضعف هذا الرقم خمس مرات (النتيجة: أنا بعت 25 ألف نسخة!). لهذا، يميل الكثير اليوم، لإثارة الجدل -وأنا غير معصوم من ذلك- من أجل الحصول على حصة كبيرة من إهتمام الجمهور / السوق. هذا الإهتمام على المجتمعات الافتراضية مثل فيس بوك، تويتر، يوتيوب، تيك توك، أو انستغرام، فإن لم يكن قراءة الكتاب، فهي قراءات عن الكتاب وكلام سطحي حوله، وما يأتي مع ذلك من تفاعلات (إعجاب، تعليق، مشاركة، إلخ).
2-الزمن
المعيار السابق يُظهر التوسع الأفقي عبر حدود المكان شرقا وغربا، أما هذا المعيار فيظهر رسوخ عمل ما في الذاكرة عبر الزمن (توسع رأسي عبر حدود الزمان). الصمود مع الزمن معيار لا يمكن أبدا التشكيك فيه، هو نتيجة اجتماعية نهائية يقع منتهاها في اللحظة الحالية لأي وثيقة أدبية أو علمية، بغض النظر عن أي جدل دائر حول الظروف التي ساهمت في بقاء نص دون آخر، يبقى أن العبرة بالخواتيم. يعيب هذا المعيار فقط أنه يتطلب مدة زمية طويلة، قد تصل إلى مائة عام حتى يحظى عمل أدبي بالاعتراف أو التقدير الذي يليق به. هذا معناه أن عمر مؤلفه سوف ينفذ حتما قبل الوصول لهذه اللحظة التي يحتفل بها القراء دون الكاتب، وقد مات الكاتب غالبا من الحسرة على نفسه (بو مثال أمريكي بارز عن هذه الظاهرة)!. لهذا تجد المؤسسات الثقافية والنقدية في عصرنا تميل إلى الاحتفاء بـ (اليوبيل) أي مرور خمسين عام على أي حدث ثقافي أو عمل أدبي / نقدي. هذا بالتالي، أثّر في نظرتنا السابقة إلى أعمال أدبية أو سينمائية لم يمرّ عليها سوى بالكاد عشر سنوات، ولكن كم عقد من العمر يملك الإنسان منذ من ميلاده حتى مماته.
الإلياذة والأوديسة، وملحمة جلجاميش أعمال خالدة يقاس وقتها بالألف عام، وفي الوقت المعاصر، هناك أعمال خالدة بعد مرور مدة مثل ثلاثية رضوى عاشر، وأعمال نجيب محفوظ.
3-الأصالة والتقليد
أحب المعايير النقدية بالنسبة إليّ، وأكثرها وضوحا للجميع، حتى من يتعامى عنها بحجة توارد الأفكار، أو الاقتباس في أحسن الأحوال، متحججا بالتناص مزيحا عنه التلاص تهمة أو التباس. الأصالة أقرب إلى معادلة رياضية بسيطة لا تحتاج إلى كثير تعقيد، واحد زائد واحد يساوي اثنين. على أن تكون كل العناصر الأدبية الفريدة هي وحايد نحتاج إلى الجمع بينها، أي أن واحد زائد واحد لا يساوي بالضرورة اثنين بحسب ما يرمي إليه برتراند راسل وتلميذه فيتجنشتاين. العمل يكون عظيم إذا أتى بما لم يأتي به الأسبقون على حد قولة المتنبي. يبقى فقط، أن الجدل قائم على فكرة أن التكرار شيء جميل، وأراه قبيح، كل شيء إذا زاد عن حده انقلب ضده، وسنة من سنن الحياة وطبائع البشر الميل إلى التنوع .. إلى التجريب.
4-مؤسس لما بعده
بعض جوانب الأصالة، لمن لا يعلم، ولمن يريد أن يسبح عكس التيّار فيغرق، وهو يحسب نفسه أنه هكذا (يفكر خارج الصندوق)، عليك أولا أن تتقن استعمال كل الأدوات داخل الصندوق، أن تكون قادرا على خلق أدب كما نعرفه، حتى تتجاوزه إلى مرحلة لم يأت بها أحد غيرك. قد لا يكون النص أصيلا، ومع ذلك، قد يحدث ويصل في جانب ما أو عنصر أدبي (أو علمي)، مبلغ، لا يتفوق عليه أحد، مثل أرسطو، الذي قدم المنطق، حاويا لكل منطق الأسبقين، البعض يرى أنه لم يقدم أي جديد بل جمد نحو ألفي عام من العلم من بعده! جيمس جويس، عظيم ليس لأنه ابتكر تيار الوعي (هو تقريبا لم يفعل) بل لأنه استطاع أن يدفع الأسلوب إلى أقصى حدوده، وكذا المتنبي لم يكن عبقريا، هو فقط استطاع أن ينشد أجمل الأبيات مستمدا بعض روح عصره المتمرد والذي سئم الناس فيه من الحروب. أحمد خالد توفيق، لم يقدم أي نص واحد أصيل، ولكن استطاع أن يلمس أنواع الخيال في العالم العربي. وقبله، نجيب محفوظ، هو لم يقدم أي شيء مختلف تقريبا، ولكنه استطاع ومن خلال عشقه للحارة، أن يجعلنا نعشق هذا الثراء المدهش من الأحداث والشخصيات، كل الاحتمالات قد تحدث في حارة أو داخل شقة (هذا هو الواقع).
هناك ثلاث أنواع من الرؤى تنبثق لدينا لو نظرنا إلى عمل في الماضي؛ طول بقاءه طوال مدة لا بأس بها، أو مؤسس لما بعده، مثل دون كيخوته .. معروفة على أنها مؤسسة للرواية بشكلها الأوروبي الحديث. مثل أعمال جيمس جويس وتيار الوعي، ماركيز والواقعية السحرية، حتى لو كان هناك أعمال سابقة تطرقت إلى نفس التوجه.
5-الأثر
الأثر هو امتداد للتأسيس الأدبي أو العلمي، ولكنه يظهر بشكل أكثر تخصيصا في المعالجات الأدبية أو السينمائية أو الفنية لنص ما، تاريخي أو أدبي، مع تعدد القراءات، تظهر الرواية في صورة مسرحية، أو فيلم، أو ألبوم من الصور أو سلسلة من اللوحات، تعد كلها قراءات ومعالجات تُعطي زخما للعمل الأدبي. ما يضمن على نحو أكبر رسوخ عمل ما في الذاكرة، عن عمل آخر لم يتم اقتباسه، انظر إلى روايات محفوظ كلها تقريبا إما أفلام أو مسلسلات أو مسرحيات. هذا ما يدفع كاتب مثل أحمد مراد، ومن خلال علاقاته، إلى تجسيد رواياته في صور سينمائية، لإعطاء قيمة يجدها البعض غير حقيقة، وكان الأولى أن يتم اقتباس بعض أعمال أحمد خالد توفيق (في حياته) بدل الاستماع إلى تصريحات أحمد مراد حول كون أدب نجيب محفوظ غير مناسب لهذا العصر، أو تصريح عمرو سلامة المريب حول كونه من محبي أحمد خالد توفيق (ولماذا لم تفتكره إلا بعد موته؟).
6-النوع
مثلما تطرقنا إلى الأصالة، والتي تحتاج إلى تحليل وتفصيص العمل، للوقوف على المعالم الأصيلة والأصلية فيها، يقابل هذا المعيار، معيار النوع، الذي يثير العاطفة في الجمهور لتوجهم إلى مجموعة من السمات المتباينة، لكن يحكمها رغم تباينها توجه وإطار عام محبب إلى قلب القارئ حسب ميوله الشخصية، يُسمى هذا الميل، بـ النوع الأدبي. ولأسباب مفهومة قد ينبذ الكتاب تصنيف أعمالهم أو تطبيق نظرية النوع على نصوصهم، لما يفرضه النوع من قيود تميل إلى خلق نفس السمات التي يُفضلها شريحة معينة من القراء (قارئ النوع)، حتى ولو كانت أعمال مختلفة. ولكن بعيدا عن أي تنظير أدبي، ولأسباب تسويقية بحتة، لا يمكننا إغفال أو هدم نظرية النوع لأنها تُرضي القارئ (ترضيني أنا شخصيا رغم كوني كاتب أيضا لا يحب أن يتقيد بنوع محدد)، خاصة وأنها تلمس عاطفة مختلفة مع كل لون أدبي بارز (الحب في الرومانسية، الخوف في الرعب، الإثارة في الجريمة، الحزن في التراجيديا، والبهجة في الكوميديا، الدهشة في الفانتازيا أو الخيال العلمي، الحنين أو الحماسة أو خليط من المشاعر في الواقعية أو التاريخية) علما إني لا أفرض عاطفة محددة على أي نوع من المذكور أو مما لم أذكر. قد يرى أحدهم نجيب محفوظ الأعظم رائدا للواقعية المصرية، بينما يمكن النظر إلى أجاثا كريستي بوصفها رائدة أدب الجريمة الإنجليزي وأعظم روائية في القرن العشرين.
7-الأدب مقابل الفن
أقصد مدرسة الفن للمجتمع (الأدب كوسيلة للتعبير، تكون مؤدبة)، في مقابل مدرسة الفن للفن. وهذا سهل، كل ما يُعطي أو يحاول أن يُعطي رسالة هادفة، يسمى أدبا. وكل ما هو يُرضي غريزة لدى الإنسان أو شعور، سواء غريزة الإبصار (التصوير)، أو الاستماع (الطرب)، أو الخيال (الأدب)، أو حتى الجنس، هو يعد أدبا. وعليه، لا يوجد تقريبا شيء اسمه أدب سيء، فلولا تباين الأذواق لبارت السلع، والأدب، حتى وإن كان سلعة جمالية، وليس استهلاكية، يظل سلعة.
8-بالورقة والقلم
فيه مجموعة من الأشكال والنماذج السردية واللغوية، خلاص صارت أمثلة نموذجية أو معيارية يُقاس عليها العمل الجيد من الردئ.
9-القيمة التاريخية
الشكل الثالث من الرؤى الجمالية التي يولدها فينا نص من الماضي، إضافة إلى طول بقاءه، أو تأسيسه لما بعده، قيمته التاريخية في ذاته. أي أن موقعة من المسار الزمني وموضعه التاريخي هو ما يُعطيه قيمته. وهنا يلزم التمييز بين الأعمال التاريخية وليدة عصرها وشاهدة عليه، حتى لو كان هناك مسافة بين الراوي والمروي، قد يكون هو الأقرب إلى زمن الأحداث، على سبيل المثال الإلياذة وسقوط طروادة. بينما هناك أعمال تاريخية لراوي يروي أحداثها من باب الراوي أو الباحث، وليس من باب الشاهد (وبعض الأحيان الراوي المشاهد للأحداث كما في بعض الأعمال السيرية التي توثق لأحداث تاريخية). نفس المقابلة يمكن عقدها بين ثلاثية غرناطية لرضوى عاشور المتأخرة زمنيا عن أحداث وتبعات سقوط غرناطة، وبين كتاب آخر لواشنطن إيرفينج من القرن الثامن عشر والأقرب زمنا للأحداث (وإن كان ليس بفارق كبير)، واسم مؤلفه هو أخبار سقوط غرناطة.
ينظر إلى نجيب محفوظ بوصفه الأديب الذي استطاع توثيق ملامح القاهرة في عصره.
جدير بالذكر أنه يمكن استبدال القيمة التاريخية، بأخرى ثقافية، وانظر آداب الشعوب وتراثهم الشعبي في قصص الأخوين جريم من ألمانيا، أو مسرحيات شكسبير من إنجلترا، أو حتى بعض الروايات الأمريكية الأكثر حداثة.
10-التجربة الشخصية
ممكن يكون عندك فكرة، وتقدمها، لا أفرض عليك نشرها، ولا يحق لي منعها، ولكن كل المعايير السابقة قد تصلح كشروط لتحديد وجهتك وتشكيل ذائقتك بوصفك كاتب أو قارئ.
على الناحية الأخرى، قد تقرأ رواية لا تعجب أحد غيرك، لأنها نالت إعجابك، أقول عنها رواية جيدة.
التعليقات