في الحديث عن “نجيب محفوظ” يحار المرء في دخول عوالمه الفسيحة والخوض في تفاصيلها، لأنّ هذا الرجل البسيط القادم من الشعبيات المصرية صار لاحقاً أشهر روائيٍّ عربيٍّ في العالم كله، وأعمق الأدباء تأثيراً في الإبداع العربي. ودون أن يخرج في أدبه عن بيئته المصرية التي أنجبته، واستلهامه منها مادته الحكائية في أغلب أعماله. مايشكّل دليلاً على كفاءته، وغنى تجربته واتساع خياله رغم صغر الفضاء المكاني الذي كان يحلّق فيه.
في رصيد الكاتب أربعةٌ وخمسون عملاً أدبياً، منها تسعةَ عشر مجموعةٍ قصصية، واثنين وثلاثين روايةً، وثلاث رواياتٍ تاريخيّة. أنجزها كلها في غضون سبعين عاماً من الالتزام المطلق بالكتابة إيماناً منه بجدوى الكلمة وتأثيرها.
وإذ لا أدّعي هنا أنّني قرأتُ أعماله كلها؛ لكنّي أؤكد بعد قراءاتٍ كثيرة ومتأنّية لما يقارب من ثلاثين عملٍ له بأن هذه الرواية “رحلة ابن فطومة” أجود إنتاجه الأدبي والأكثر جمالاً من حيث اللغة والسرد والرمزية والخيال.
تحكي الرواية رحلة شابٍ يُدعى “قنديل محمد العنّابي” الملقب “ابن فطومة” والتي ابتدأ رحلته عقب مظلمةٍ وقعت عليه في أرض الوطن، فرأى في السياحة سلوى مما يغشاه من أحزان، ولعلّ الله يدّخر له في تجواله هذا خيراً ورضى.
ركب “ابن فطومة” القوافل متنقلاً بين بلدانٍ متباعدة تنشب بينها الحروب والخصومة، وفي كلّ مرة كان ينفض “ابن فطومة” عن ذيله رواسب الأكدار نجده وقد تجدّد له الاستياء والتبرّم، مرةً لفقد الزوجة والأولاد، ومرّةً لسجنه عشرين عاماً، ومرّاتٍ لتباعد هدفه الأسمى وهو الوصول إلى “دار الجبل” دار الحياة الرضيّة حيث التشافي من أمراض الجسد والروح معاً.
وفي كل محطّةٍ من هذه المحطات كان يكتب في دفتره خبر الرحلة وعجيب مشاهداته فيها مع العبرة والعظة والمغزى.
يصل الرحالة مع كوكبةٍ من المتنورين ناشدي الراحة الأبدية إلى تخوم “دار الجبل” فتعترضهم صحراء ماحلة لابدّ لهم من قطعها قبل نوال المُراد، فيتحرّر بطلنا من أحماله ويعهد بدفتره إلى قائد القافلة الذي سيرجع به إلى الوطن الأم. وهنا ينقطع خبر الرحّالة وتبقى “دار الجبل” لغزاً يختزل في معناه أحجية الحياة وسيرورتها.
إذن.. لاتحكي الرواية تاريخ أفرادٍ وجماعاتٍ فقط، بل طبقاتٍ وأنظمة حكم، بل تحكي أكثر من هذا؛ هي قصة البشرية جمعاء بحسب تسلسلها التاريخي / الحضاري بالترميز مرّةً، وبالمراوغة السردية مرّةً أخرى، وذلك بتسمية محطات الرحلة التي سلكها البطل، أو مافيها من صنوف البشر وطبائع الحكّام وتدرّج المجتمعات بين أديانٍ إثنيّةٍ وبشريةٍ وكونية بحثاً عن الإله الحق، وذلك ابتداءً من بزوغ فجر الحضارة الأولى “دار المشرق” ثم وعيها بالنقص “دار الحيرة” ثم رغبتها بالتحدي والكمال “دار الحلبة” ثم سعيها نحو الدعة والسلام “دار الأمان” ثم أفول الحضارة وهرمها ودنوّها من النهاية “دار الغروب” وأخيراً “دار الجبل” حيث السكينة والسلام الكامل، وهي الدار الأخيرة التي تركها الكاتب دون الحديث عنها جاعلاً منها بداية مغامرةٍ جديدةٍ لبطله مع سؤالٍ أخيرٍ وملحٍّ؛ هل واصل “ابن فطومة” رحلته أم هلك في الطريق؟.
يختزل الكاتب قصة الحضارة والبشرية في محطاتٍ، ويذكّرنا من خلال رحلة “ابن فطومة” أنّ في كلّ محطةٍ خسارة مؤكدة، يقابلها مكسبٌ في الحكمة والحصافة والرشد وسداد الرأي؛ وهي خلاصة التجارب ومخالطة الناس والأحداث. وأنّ لكل انسانٍ رحلة تنهك جسمه وتستغرق عمره، ولكنها تسمو بروحه إلى حيث السعادة التامة… إلى حيث دار الجبل.
صدرت نسختي من الرواية عن دار الشروق ، الطبعة 3، عام 2008، وتقع في 126 صفحة من القطع المتوسط، وهي -بظنّي- واحدة من أجمل الروايات العربية وأكثرها تكثيفاً وترميزاً، وأفضلّ ما ندّ عنه قلم الكبير “نجيب محفوظ”.
التعليقات