- كيف لهذا أن يحدث؟

- لست الوحيد الجاهل هنا ، فحارتنا كلها لا تزال مصدومة مما حصل ، صحيح أن الموت قدر محتوم ،لكن طريقة موته هي ما جعلتنا مصدومين للخبر وغير مصدقين له .

- أ صحيح أنه مات مشنوقا؟

- نعم هذا ما حدث للأسف .

- كارثة حقيقية ! يا لها من ضربة موجعة لأسرته ولأهل الحارة، بل لرواد العلم أجمعين .

- قدر الله ما شاء فعل .

- إنا لله وانا إليه راجعون .

بعد ما أصاب الحارة من بلاء ، استمرت التجمعات كل يوم أمام باب المسجد بعد كل صلاة عشاء ، لتبادل آخر الأخبار . كان الجميع يحيط بشيخ الحارة نظرا لكونه الوحيد الذي يستطيع إشباع فضولهم فهو على ٱتصال مباشر برجال السلطة .

- اذا ما الجديد يا عبد المجيد ؟

- لقد أغلق ملف القضية ،كل الأدلة تشير الى أنها مجرد عملية انتحار .

- عجيب ،انا الذي ظننت ان صديقنا العالم من اسعد الناس في الدنيا

- نعم هذا ما ٱعتقدته ايضا ، ظاهريا ، فهو لم يكن يعوزه شيء لا ماديا ولا معنويا ، فهو متزوج وأب لثلاثة أولاد ٱشتهروا في حارتنا بحسن الخلق والتعليم ، أما مسكنه فقد ٱستطاع بناء ڤيلا متواضعة على بعد بضعة أمتار عن حارتنا ، لقد كان رجل طيبا، ذو سمعة حسنة بين رجال حارتنا فهو لم يتردد قط في مد يد العون للمحتاجين متى استطاع ذلك ، ناهيك عن ما قدمه للحارة من تضحيات في سبيل نمائها والوصول بها إلى ما هي عليه الان ، لهذا فلا أظن أن الرجل له من الأسباب ما تبرر قيامه بذاك الفعل الشنيع .

- لك كل الصواب في ما قلت ، لكني لاحظت شيئا واحدا أثار ٱهتمامي من خلال مراقبتي له من دكاني كل يوم ، فقد كان يمضي جل وقته في مختبره المقابل لباب القرافة ؛ فمنذ ان يدخله صباحا على الساعة الثامنة لا يبرحه حتى وقت متأخر من الليل .

قاطعه أحد الرجال صائحا به في عنف : أتحاول ان تتهم الرجل بالفساد ولم تمر إلاّ بضعة ايام على مفارقته لنا؟

- لا ، ابدا ، كل ما في الامر انني احاول سرد الوقائع كما رأيتها دون تحريف او أي تحيزات .

- لعنة الله عليك يا فاجر .

اشتد الصراع بين الرجال وزاد التوتر بينهم ، ليتحول الحديث البسيط إلى ملاسنة وكانت لتتطور الأمور للأسوء لولا تدخل شيخ الحارة الذي استطاع تهدئة الوضع المتوتر قائلا : لقد تعرض المختبر لفحص دقيق وشامل ولم يتم إيجاد ما يثير الشكوك داخله .

تنهد الرجال في ارتياح وطمأنينة ، ثم ساد صمت ثقيل لم يتجرأ احد على قطعه . وفي هذه الاثناء قدم علي -وهو ابن عم الضحية- مهرولا حاملا بيمناه بضعة اوراق كتب عليها أسطر قليلة ، وقبل ان يرد السلام على الرجال رفع الاوراق عاليا ثم صاح بهم : يا جماعة ، انا لدي الجواب، انا لدي الجواب . قدّم الأوراق لشيخ الحارة ليقرأها ثم ٱستدرك بلهفة: بحكم رابطة الدم التي تجمعني بمهران ، استطعت التوصل الى هذه الوثائق المهمة والتي تحكي لنا معاناته مع فضوله المفرط وحبه للاكتشاف ، توقف قليلا كأنما يحاول إعادة تنظيم أفكاره ،ثم تابع وبصوت أكثر جدية وقوة : يا جماعة ، لقد شنق مهران نفسه لأنه احب العلم وقدسه ، فأراد الاكتشاف اكثر ولو استدعى ذلك التضحية بحياته ، فمنذ ازيد من سنتين كان يعتكف كثيرا في مختبره محاولا فهم ما يحدث اثناء الموت وبعده ، وللاسف اكتشف ان سبيله إلى ذلك هو التجربة التي يكون فيها عنصرا اساسيا ولم يتردد في القضاء على حياته لانه ظن انها لا تساوي شيئا امام اشباع رغبته في التعلم و فضوله العلمي الذي زاد عن الحدود , لهذا فاننا امام جريمة قتل وليست مجرد عملية انتحار والمجرم هنا من نوع خاص لم تألفه عقولنا ، فلا يمكننا محاكمته ولا إدخاله السجن ولا حتى إعدامه ، إن من انتزع منا مهران هو العلم ، يا حصرتي على ابن عمي الذي استسلم لرغبته القوية في التعلم فشنق نفسه. يا سادة ان مهران يمثل النموذج المثالي الذي ينبغي أن يكون عليه أي عالم ، كل ما نرجوه الان أن يكون قد توصل الى الاجوبة التي كان يسعى اليها .

وبعد ان اتم شيخ الحارة قراءة ما بين يديه صاح بقوة : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فردد خلفه الرجال من المجمع بصوت يزلزل القلوب : اللــــــه اكبــــــر .