كل شيء في الوجود يبدو أنه “هو”،

إلا الإنسان… يبدو وكأنه يحاول أن يكون.

هو الكائن الوحيد الذي لا يسكن صورته،

بل يطاردها كما يطارد الحلم نفسه حين يهرب عند الفجر.

كأنّ الإنسان لم يُخلق ليعيش،

بل ليحلم أنه يعيش.

منذ أن نظر الإنسان إلى الماء فرأى انعكاسه،

وهو لا يرى نفسه أبدًا،

بل يرى ما يظن أنه هو.

ومنذ أن قال "أنا"،

انقسم إلى اثنين:

الذي يقول، والذي يُقال عنه.

ومنذها، ظلّ يبحث عن نفسه بين الكلمتين،

ولم يجد إلا الصدى.

الإنسان لا يسكن العالم،

بل يسكن وهمًا متحركًا يسمّيه “حياته”.

إنه ينسج حوله شبكةً من الأسباب والمعاني،

ثم يصدقها،

ويعبدها،

ويخاف فقدانها كما يخاف الطفل من استيقاظه من حلمٍ جميل.

لكن ما الإنسان سوى فكرةٍ تراود الوعي؟

إنه صورةٌ افتراضية نُقشت على جدار اللاموجود،

تبدو حقيقية لأنها تتألم.

الألم هو البرهان الوحيد الذي يملكه الإنسان على وجوده،

لكنّه برهانٌ مزيّف،

فهو لا يدلّ على الحياة، بل على صراع الحلم مع يقظته.

إن الإنسان يحلم بأنه حر،

لكنّ حرّيته لا تتجاوز قدرة الحلم على تغيير مساره.

هو يختار، نعم،

لكن اختياره يحدث داخل نصٍّ كُتب قبل أن يولد.

كل ما يظنه بداية هو تكرار،

وكل نهايةٍ ليست إلا فصلًا من وهمٍ أطول.

العجيب أن الإنسان هو الكائن الذي يشتاق إلى ما لم يعرفه،

ويحزن على ما لم يملكه،

ويخاف مما لم يحدث.

كأنّ وعيه آلة لصناعة الفقد.

إنه لا يعيش كي يكون،

بل يعيش ليُدرك أنه لم يكن بعد.

كل إنسانٍ هو إلهٌ ميت في طور النسيان.

نُفي من كماله إلى ذاته،

وصار عليه أن يخلق المعنى بيديه كي يبرّر سقوطه.

لذا يخترع الإله، ويكتب الكتب، ويبني الأخلاق،

لا ليقترب من الحقيقة،

بل ليحمي نفسه من الفراغ الذي يتهدده في الداخل.

لو توقف الإنسان لحظةً عن الحلم بنفسه،

لانطفأت صورته كما ينطفئ ضوء المرآة إن غاب الوجه عنها.

لكنه لا يستطيع.

فالحلم هو وجوده،

والاستيقاظ هو فناؤه.

إنه الكائن الذي لا يحيا إلا وهو نائم في فكرته.

وهكذا،

يبقى الإنسان شاهدًا لم يشهد شيئًا،

يحكي قصة لم تبدأ بعد،

ويحلم بحقيقةٍ لا وجود لها إلا في خوفه منها.

هو الكائن الذي حلم أن يكون،

فصار وهمًا يمشي،

يبحث عن حلمٍ أكبر ليختبئ فيه من نفسه.