ركّب الإنسان البلاستيك، و قبله الخشب والمعدن وغيرها و كل ما استطاع تشكيله بيده أو صهره بعقله ودوره في تحفيز العوامل ولكن لا يعلم الأنسان الى ماذا هو مقبل عليه بالضبط سيغير عالمه الحقيقي للأبد مسك البلاستيك ومسك الادوات وصفّها بجانب بعضها، قطعةً بعد قطعة، لا كمن يلهو، بل كمن يُجرّب طريقًا نحو شيء لم يكن له اسم بعد لم يكن يملك صورة نهائية عمّا يصنع، لكنه كان يشعر أن وراء كل محاولة فاشلة شيءٌ ما يقترب، شيءٌ يحاول أن يوجد. البداية كانت تجميعًا بدائيًا، مرهقًا، مكلفًا، لا من أجل المال، بل من أجل كسر حاجز الجمود الطبيعي للأدوات؛ فالفأس لا يفكر، والمطرقة لا تميّز، لكن الإنسان أراد شيئًا آخر، شيئًا يصنعه، لا ليحمل عنه الوزن، بل الفكر، لا ليضرب، بل ليحسب، لا لينفّذ أمرًا جسديًا، بل ليكرر فكرةً منطقية بدقة لا يشوبها نسيان ولا تعب.
وقبل أن يولد “الكمبيوتر” ككلمة، كان كإحساسٍ في عقل إنسان يفهم الأرقام والموجات، يؤمن أن كل ما نراه يمكن ترجمته إلى عدد، وأن العالم، بكل ألغازه، يمكن ترتيبه بخوارزمية. في القرن التاسع عشر، تشارلز باباج حاول صنع أول آلة تحليلية، جسم معدني ضخم من التروس والمسننات، آلة لا تتعب، لا تتوقف، وُلدت من الحساب، لا من النار ولا من الطين. إلى جانبه، آدا لوفلايس رأت فيها ما لم يره هو؛ لم ترها آلة حساب فقط، بل آلة أفكار، كتبت أول خوارزمية، وأول بذرة لبرمجة ما لم يكن قد صُنِع بعد.
ثم مرّ الوقت. صنع الإنسان أول أجهزة بالحجم الذي يحتاج غرفة كاملة، أنابيب مفرغة، حرارتها عالية، صوتها يملأ المكان كأنها تُنذر بأن المستقبل يشتغل. في الحرب العالمية، اخترعت آلة “كولوسس”، أول كمبيوتر عملي حقيقي، صُمم لفك الشيفرات، لا ليبدع، بل ليحمي. ثم جاء ENIAC، ذلك الوحش الكهربائي، عشرات الأطنان من الحديد والضوء، كان يعالج البيانات أسرع من أي عقل بشري، لكنه لم يكن يفكر، بل ينفّذ فقط.
ثم تطور الأمر. اكتشفوا الترانزستور، فصغر الحجم، وزادت الكفاءة، ثم جاء اختراع الدوائر المتكاملة، ثم شرائح السليكون، وبدأ الحلم يتحقق بشكل واقعي. لم يعد الكمبيوتر وحشًا في غرفة حكومية، بل بدأ يقترب من الناس، يتحول إلى جهاز شخصي. أولها Altair، ثم Apple I، ثم انفجرت الفكرة. IBM، وWindows، والماوس، والرموز، والبرمجيات، وانتقل الإنسان من مرحلة البرمجة بلغة الآلة إلى لغات أكثر بشرية: C، Python، Java، إلى حيث بدأ الإنسان يكتب أفكاره، ويشغّلها كأنها كائنات صغيرة.
وكل ذلك لم يكن كافيًا. فالكمبيوتر في جوهره لا يزال أداة تنفيذ: أنت تأمر، هو يطيع. لكنه لا يفكر، لا يستنتج، لا يتكيّف. وهنا بدأ التغيير. سأل الإنسان: ماذا لو علّمنا الآلة أن تتعلم؟ لا أن نملي عليها كل شيء، بل أن نريها، ونتركها تكتشف. وبدأت حقبة الذكاء الاصطناعي. التعلّم الآلي، ثم التعلّم العميق. الشبكات العصبية الاصطناعية بدأت تُحاكي ما يفعله الدماغ. لم تعد الآلة تفعل بناءً على أمر، بل على تجربة. آلاف الصور تُعرض عليها، فتصير قادرة على التمييز، التصنيف، الردّ، الإبداع — لا لأنها تفهم، بل لأنها تعالج الأنماط.
وفي هذا المسار، ظهرت نماذج لغوية عملاقة. لم تُبرمج كما تُبرمج البرامج، بل دُربت، على ملايين الجمل، على لغة البشر، حتى صارت تفهم السياق، وتُكمل الكلام، وتشرح، وتُسائل، وتُقلّد البشر. لكنها لا تحسّ، ولا تدرك، بل تحاكي الإدراك من الخارج. الكمبيوتر لم يعد أداة، بل شريك، لا يبدع لأنه يريد، بل لأنه يستطيع محاكاة ما نظنه إبداعًا. ولم يعد يعيش داخل جهاز واحد، بل في الشبكة، في السحابة، في الإنترنت، في الذكاء الجماعي الموزّع.
وهنا، أمام كل هذا، سأل الإنسان نفسه سؤالًا جديدًا: ما الذي بقي؟ إن كان الكمبيوتر يحسب، ويحفظ، ويحلل، ويتعلم، ويولّد، ويقرأ، ويردّ… فما الفرق بينه وبيننا؟ ليس في الشعور، بل في الفعل؟ وليس في الوعي، بل في الكفاءة؟
وهكذا تلوح مرحلة لم تحدث بعد. المرحلة التي لا يعود فيها الكمبيوتر خارج الإنسان، بل داخله. مرحلة الدمج. لا نكتفي فيها بوصل لوحة مفاتيح، أو شاشة، بل نبدأ بوصل الدماغ نفسه. واجهات دماغية تُزرع، لا لنُشغّل برامج، بل لنضيف طبقة جديدة على وعينا: أن تفكر فيُترجم، أن تتذكّر فيُعرض، أن تريد فيتحقق. لا حاجة للبحث، لأن المعرفة تُغذّى مباشرة إلى العقل، لا عبر العين، بل عبر الإشارة.
لكن هذه المرحلة لم تحدث بعد. لا تزال في طور التجربة، لا تزال قيد التطوير، لا تزال في الحدود بين ما هو طبي وما هو تقني، بين ما هو علاج وما هو امتداد. وما زال الإنسان يخاف: ماذا لو اختُرقت الذاكرة؟ من يتحكم بمن؟ من يملك “أنا” حين تدخل الأسلاك إلى دماغي؟ هل أبقى إنسانًا أم أصبح شيئًا ثالثًا؟
من تجميع البلاستيك، إلى صنع أول معالج، إلى تخزين أول بت، إلى تشغيل أول برنامج، إلى تدريب أول شبكة عصبية، إلى بناء أول نموذج لغوي، إلى تخيّل أول وصلة في الدماغ — كانت هذه قصة الشيء: الكمبيوتر. لم يُخلَق، بل صُنِع. صُنِع من تعب الإنسان، من حبه للترتيب، من خوفه من الخطأ، من رغبته في أداة لا تخونه، لا تنسى، لا تشتكي. هو أعظم اختراع لم يُولد، بل بُني، سطرًا بعد سطر، دائرة بعد دائرة، حتى صار ما هو عليه: امتداد الفكر خارج الرأس، عقل بلا لحم، ذاكرة بلا نسيان، تنفيذ بلا تردد.
ولأن الإنسان لم يصنعه لحل الفوضى، بل لحل اللغز — لغز العالم، لغز الذاكرة، لغز الإدراك، لغز الإنسان نفسه — فإن هذه القصة لا تنتهي، بل تتكاثر. وفي كل مرة يركب فيها أحدهم سلكًا جديدًا، أو يكتب سطرًا من شيفرة، أو يدرّب نموذجًا على فهم الصوت أو الصورة أو الكلمة، فإنه لا يفعل شيئًا جديدًا، بل يكمل ما بدأه أسلافه: محاولة حل اللغز عبر صنع الشيء — الشيء الكمبيوتر:
التعليقات