إذا نشأ الإنسان في بيئة اجتماعية معينة وأخلد إليها قلبًا وقالبًا ورضي بأن تكون له الأفق والمجال فإنه لا يلبث أن يجعل ما فيها من معتقدات وتقاليد وقيم بمثابة الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فيرتضيها لا لأنها الأفضل بل لأنه لم ير غيرها ويعشقها لا لأنها أصدق بل لأنه لم يذق سواها

وهذا حال أكثر الناس فإنهم إذا ظلوا في موطنهم الذهني الأول لم يفارقوه نظرًا ولا نقدًا بل جعلوه محرابًا ومثابة يطوفون حوله دون تردد ويعودون إليه كلما خامرهم الفكر أو راودهم الشك

الإلف حجاب العقل وزينة الغفلة👤

العجيب أن العقيدة التي تولد مع الإنسان قد تكون في ذاتها سخيفة مبنى سقيمة معنى حتى لو عرضتها على عقل خالص لاستغربها واستبشعها ولكن صاحبها لا يراها إلا من أصدق ما يكون بل يضفي عليها مسحة قداسة ويكسوها برداء المعقولية فتصير عنده من البديهيات التي لا تحتاج إلى إثبات ولا تحتمل النقاش

وما ذاك إلا لأن الإلف يلبس المألوف زينة حتى لو كان قبحًا ويجعل الغفلة سترا على خوائها حتى لو كان باطلًا فإن النفس تألف ما اعتادت لا ما ثبتت حقيقته وتستريح إلى ما لقنت لا ما عرض على موازينها

دوامة العجب وسؤال الاندهاش🤍

ومن عجب الإنسان أنه حين يرى غيره يخالفه في المعتقد أو العادة أو الفهم يصاب بالدهشة ويتساءل كيف لا يرون ما أراه وكيف لا يؤمنون بما أؤمن به بل قد يتعاظم في نفسه حتى ينزلهم منزلة الجهل أو الضلال وما يدري أنهم هم أيضا يتعجبون منه كما يتعجب منهم ويستغربون موقفه كما يستغرب موقفهم

فكأن الناس جميعًا أسرى دائرة من الإلف كل يرى دائرته مركز الكون وما عداها أطرافا ضائعة ولو كشف الغطاء عنهم لرأوا أن كلًا منهم ينظر من زاوية لا من الحقيقة ومن مرآة لا من نبعها ولو نظروا ببصر الحق لا ببصيرة الهوى لأبصروا أن العجب مشترك والسؤال متبادل واليقين مظنون

سبيل التحرر من قيود النشأة🌻

فالخلاص ليس في إنكار النشأة فالنشأة جزء من التكوين ولكنه في تجاوزها لا الانغلاق فيها في تأملها لا التسليم المطلق لها فإن الحق لا يعرف بالموروث وإنما الموروث يوزن بالحق ولا قيمة لاعتقاد لم يختبر ولا لجماعة لم تسائل ذاتها عن وجه صوابها

ولذلك كان من أوجب الواجبات على الإنسان أن يخرج من مألوفه لا خروج انبتات بل خروج استبصار وأن يتعلم كيف ينظر إلى ما بين يديه بعين النقد لا بعين الحنين فإن الحنين يجمل والنقد يجلي وما كل ما ورثناه حق ولا كل ما خالفناه باطل.