ترابط الإبداع بالجنون

"لم توجد على الإطلاق موهبة فطرية خالصة إلا ورافقها مسٍّ من جنون"! هذا ما عبّر عنه جوناثان سويفت Jonathan Swift"" المؤلف والأديب والناقد السياسي الأيرلندي، واصفاً الإبداع، ولطالما ارتبطت الأعمال الإبداعية لكتّاب أو موسيقيين أو نحاتين أو فلاسفة بتفردهم عن أغلب الناس بطبائع وصِفات شخصية غريبة عن أوساطهم، اتّهموا على أثرها بالجنون، ومازاد هذا الاتهام انتشاراً نهايات هؤلاء، إذ لا تكاد تخلو أحدها من انتحار أو أذية لأنفسهم أو عزلة عن المجتمع، برغم ذلك لم تُسقِط سِمة الجنون إبداعهم قط.

وقد طُرحت مسألة العلاقة بين العبقرية والجنون والإبداع عند فلاسفة اليونان، وكان أرسطو نفسه قد أتى على ذكرها في نص يحمل عنوان "رجل العبقرية والكآبة"، وكان يعني بتلك الكآبة ذلك "الحزن الحالم المتعلق مع صورة الفنان"، وقد لاحظ أرسطو أن رابطة ما "توحّد بين الإبداع وتقلبات المزاج".

"العبقرية والجنون" كتاب ناقش الموضوع

"فيليب برونو" طبيب نفساني وكاتب وأستاذ في جامعة السوربون، وقدّم حوالي عشرين عملاً للمكتبة الفرنسية في مجال العلاقات داخل الأسرة وخارجها، ومن كتبه: «كلمات الجسد»، و«الانفعالات»، و«500 سنة من الطب النفساني» و«تاريخ الجنس» حاول أن يكشف أن «العبقرية» تتجاور في كثير من الأحيان مع «الجنون».

 أسهب "برونو" في كتابه "العبقرية والجنون" في وصف الكثير من حيوات الكتّاب والمؤلفين والموسيقيين وغرابة سلوكياتهم ما أدى إلى توصيفهم بالجنون، فذكر «أزمات الهذيان» لدى الشاعر رامبو وحالات الإحباط النفسي «العصاب الاكتئابي» لدى الشاعر غوته والموسيقار المبدع «شومان»، والإدمان الكامل للمخدرات لدى بودلير صاحب ديوان «أزهار الشر» أحد أهم المجموعات الشعرية في التاريخ الإنساني، ولدى الكاتب المسرحي القلق جان كوكتو، ونوبات الانفعال الجنوني لدى مايكل انجلو، والميول الانتحارية لدى الفنانين غوغان وفان غوخ والروائية فريجينيا وولف، وعصاب بيتهوفن و الفيلسوف ويتغستاين، وانهيار الفيلسوف نيتشه وبقائه آخر أيامه في مصحة عقلية، والنحّاتة كامي كلوديل بعد قصة حبّها الشهيرة والمريرة مع النحّات الكبير رودان.

 هذه القائمة يمكن أن تطول كثيراً وتشمل ميادين الأدب والرسم والموسيقى والفلسفة وغيرها... وفي كل الحالات «يتجاور» الإبداع مع ميل نحو تصرفات غير عقلانية.

التعريف

يُعرَّف الإبداع بأنه إنتاج شيء جديد وذا قيمة في آن واحد، ويُعرَّف الجنون بأنه سلوك منحرف مدمر للذات.

يتميز العبقري بالهامشية والعصيان وعدم الخضوع للتقاليد والأعراف السائدة مثله في ذلك مثل المجنون، ولكن الفرق الوحيد بينه وبين المجنون هو أنه لا ينتهكها بشكل مجاني أو مبتذل أو غير واع، ويضاف إلى ذلك أن للعباقرة عاداتهم التي يلتزمون بها وتصبح جزءاً لا يتجزأ منهم، كان بلزاك يسهر في الليل وينام في النهار، وهكذا كتب معظم مؤلفاته إن لم يكن كلها، وهذه الطريقة في الحياة تعتبر جنوناً بالنسبة للإنسان العادي فالطبيعي أن تفعل العكس أي أن تنام في الليل وتشتغل في النهار، ولكن العبقري ليس إنساناً طبيعياً..

ربط الجنون بالإبداع ليس اعتقاداً حديثاً

إن الاعتقاد بأن الجنون مرتبط بالتفكير الإبداعي قائم منذ العصور القديمة، ومنذ زمن الفلاسفة اليونانيين، حيث أكد أولئك الذين كتبوا عن العملية الإبداعية أن الإبداع ينطوي على ارتداد إلى عمليات عقلية أكثر بدائية، وأن الإبداع يتطلب استعداداً لتخطي الخطوط الفاصلة بين التفكير العقلاني والفكر اللاعقلاني وإعادة تقاطعها.

وفي نفس السياق قال عالم النفس الاجتماعي (روتنبرج ) " "Jonathan Rotenberg "إنها فكرة شائعة على نطاق واسع، السلوك المنحرف سواء كان في شكل غريب الأطوار أو ما هو أسوأ، لا يرتبط فقط بأشخاص عبقريين أو إبداع عالي المستوى، ولكن كثيراً ما يُتوقع منهم."

ومن ناحية أخرى فإن الفكرة القائلة بأن الإلهام يتطلب التراجع والانغماس في اللاعقلانية من أجل الوصول إلى الرموز والفكر اللاواعي كانت شائعة عبر التخصصات لمئات السنين، حيث عبّر أفلاطون عن الإبداع بأنه "جنون إلهي ... هبة من الآلهة". ، وسجّل "سينيكا" الفيلسوف والخطيب والكاتب المسرحي الروماني أن أرسطو قال: "لا يوجد عبقري عظيم بدون مزيج من الجنون" .

تقول إحدى شخصيات شكسبير ، "المجنون ، العاشق والشاعر من الخيال كلهم ​​مضغوط"، وذكر الفنان والكاتب مارسيل بروست "كل شيء عظيم في العالم تم إنشاؤه بواسطة العصابيين".

 لقد قام من عُرفوا بالجنون بتأليف روائعنا، لكننا لا نأخذ في الاعتبار كم المعاناة التي تحتدم في دواخلهم، وذلك الألم الذي صاغوه في بوتقة جنونهم إلى فن وأسمى أنواع الأعمال الأدبية.

الجنون و الابداع في دراسات علم النفس

شكلت العلاقة بين الفـن والجـنون تاريخيـاً موضوعـاً إشكالياً بـالغ الخصوبة والتنوع وخاصة في مجالي الأدب وعلم النفس، ولقد أشار فرويدFreud" " وفيما بعده "إبرا هام كـريس" Abraham Kris وبعـض علماء النفس الآخرون بأن الفنان شخص قادر على أيجاد علاقة تعبيريـة مـع لاشعوره، وبعبارة أخرى قادر على إحياء طاقـات نفسـية خفيـه عنـد عامـة الناس، وذلك ينسحب على كافة أشكال الإبداع الفني منذ القرن السادس عشـر حتى أيامنا هذه.

 وتشير بعض الملاحظات أن هناك علاقة طرديه بين الجنون والفن، وذلـك يعني أن خصوبة الفن وحرارته مرهونة بعمليات ذهنية مجانسة لهـذه التـي تفعل فعلها في حالة الجنون، وذلك يعني أن رفض النظر إلى الجنون بوصفـه ظاهرة مرضية يشكل منطلق النظر إلى الجـنون بوصفـه نوعـاً مـن الإبداع الفني والأدبي .

يشير علماء النفس الأوائل، الـذين أولـوا الأعمال الفنيـة لمرضـاهم اهتمامهم الخاص، إلى وجود علاقات ترابط بين بعض المظاهر الأدبية وبعـض أشكال الجنون المحددة، ويشكل الوصف الذي قدموه لتحديد المظاهر المرضيـة للجنون مدعاة للتهكم في وقتنا الراهن.

ويذكر الدكتور هيلموت "Helmut Rennert" السمات الخاصة بمـرض الفصام "Schizophrenie" كما يلي: نقص في الإمكانيات الفكريـة، غلبـة نزعـات اللعب، عدم القدرة على ملاحظة المبادئ الجمالية، امتـلاء جمـالي فـي العمق، استخدام عنـاصر كتابيـة مثـل الأرقام والحـروف، وجـود فـوضى تشريعية، ميل إلى الهندسة والرسم المبسط…الخ.

وفي هذا السياق يلاحظ أن أي تباين مع المعيـار الأكاديمي يفسـر عـلى انه ظاهرة مرضية ومؤشر لوجود المرض العقلي، ووفقا لـذلك المعيـار فـإن الفن الحديث منذ عهـد مانيـه " "Manet ومـاتيس Matisse"" وكـلي Klee" " وبيكاسـو " Picasso " يقع في إطار هذه المصائد السيكولوجية وذلك ما يشير إليه كتـاب رونير Rennert الذي ظهر عام 1966.

 وفي إطار المعرض الدولي الخامس لكاسـل Kassel تـم عـزل أعمال ادولـف ولفـلي Adolf Wolfli وهـنريك انتـون Heinrich Anton فــي قطــاع خــاص بالأمراض السوسيولوجية ، وخاصة الأعمال الأكثر أهمية وإثارة، ويضـاف إلى ذلك تزويد هذه الأعمال بلوحات تشرح للآخرين بان هذه الأعمال مـا هـي غير نماذج إبداعية لمرض انفصام الشخصي (Schizophrenie)، ومن المناسب هنا أن نغض النظر عن ذلك المفهوم الغامض للفـن المـرضي وأن لا نأخذ بعين الاعتبار أو بالتحديد إلا حالات الإبداع والقـدرة عـلى التفجير السيكولوجي النفسي الذي يؤدي إلى خلق فني وذلك كله مع التحفظ المبدئي بالاتهام المرضي.

وبذل جون ديبيفيـة Debeffet Jean جهداً منذ عام 1945، لتوضيح مفهوم الفن الخام والذي يعممه ليشـمل الأشكال الفنية كافة مثل : الرسم ، التطريز، التصوير، والنحت، وهو يصوره على أنه فن عضوي ذو طابع إبداعي وهـو قـلّ مـا يسـتند إلى الفـن المألوف إذ غالبا ما يكون هؤلاء الفنـانون غربـاء عـن الوسـط الفنـي المهني.

اهتمّ الأطباء بالأسباب الجسدية للأمراض العقلية وكذلك بالأسباب الجينية للعبقرية، حيث كتب الطبيب لومبروسو (1889) عن الروابط التي يعتقد أنها موجودة بين العبقرية والجنون، وبقيت أفكاره مقبولة نسبياً حتى القرن العشرين حتى أشارت بيانات لويس تيرمان (1925) إلى أن الأشخاص ذوي القدرة العالية أظهروا نسبة أقل من الأمراض العقلية ومشاكل التكيف مقارنة بالمتوسط.

ولكن في نفس الوقت الذي بدأ فيه تيرمان نشر الجولة الأولى من نتائجه، كان فرويد يصوغ مفاهيمه في التحليل النفسي في فيينا، وحلل فرويد الأعمال الأدبية وحياة المبدعين البارزين لأنه "كان يعتقد أن الأعمال الفنية والأدبية العظيمة تحتوي على حقائق نفسية عالمية وأن دراسة حياة الفنانين والكتاب ستكشف عن حقائق نفسية أساسية في الأشخاص ذوي الحساسية العالية والموهبة.

منذ وقت تحليلات فرويد، واصل المحللون النفسيون وعلماء النفس الآخرون إجراء عشرات من التشخيصات المرضية والتحليلات التشخيصية لأعمال أو حياة المبدعين البارزين في محاولة لتحسين فهمنا للعلاقة بين الإبداع والجنون، وفي هذا القرن تمتلئ الأدبيات السريرية ولا سيما كتابات التحليل النفسي، بالنظريات حول العلاقة بين الإبداع والمرض العاطفي.

استند المقال على المقالات التالية