منذ سنوات لم تصلني رسالة واحدة مكتوبة بخط أناملك تحمل بين ثنايا كلماتها عنوانا ثابتا لك و خبرا يقينا أنك بخير. منذ سنوات بتمام ساعات النهار فيها ودقائق الليل لم تكلف نفسك بكتابة أسطر قليلة تسكت جوع سؤالي عنك مع كل ساعي بريد يطرق باب بيتنا .على مدار سنوات كاملة وأنا انتظر بحماقة ابنة، بحماقة طفلة صغيرة لم تتجاوز السادسة من العمر تجري وتسقط، تنهض وتسقط من جديد وهي تحاول اللحاق بك ومنعك من الذهاب نحو غربة أضاءت لك سواد واقعك بأوهام أنوارها.

في مشهد درامي محبك الإخراج لا يغادر ذاكرتي أبدا، كانت تلك الطفلة تجري وتتعثر على طول الممر الفاصل بين باب غرفتها والباب الخارجي للمنزل، كانت تبكي بشدة، طفلة لا تحتمل رؤية والدها يجمع بكل ما أوتي من قسوة و غضب ملابسه ويضعها داخل حقيبة سفر بنية اللون و يذهب بعيدا، طفلة لا تستطيع نطق إسم والدها بالشكل الصحيح، لازالت أثار دماء إقتلاع سن فكها السفلي تغطي نصف وجهها و أصابع يده، طفلة تفهم وتدرك أنها المرة الأخيرة التي تراه فيها، لذلك هي تبكي، تبكي بشدة و تتعثر.

يومها لم أفهم مأتى تيار البرود الذي اجتاح أمي، لم تمنعك، لم تتمسك بك كما تمسكت بك، لم ألمح دمعها السخي في العادة، أمي التي كانت تبكي لموت بطل سلسلتها التلفزيونية أو لوجع أصاب معدتها أو حتى عند سماعها أغنية تفضلها عن غيرها، لم تدمع عينها و كانت تنظر بغير إتجاهك، ترفع دعائها شاكية إلى الله سوء إختيارها و سوء الحال الذي أصبحت عليه.

الآن صرت أفهم أنه برود الخيبة و التشبع بالألم.

كنت كل منتصف ليل عيدي ميلادي أطلب من الله أن لا تمر سنتي الجديدة دون أن تكون لي فيها ذكريات وإن كانت شحيحة معك أرويها لأبنائي وأحفادي في ليالي ايار الطويلة. أن تجمعني معك صورة واحدة لا أكثر أخبأها في محفظتي السوداء الصغيرة أو أعلقها داخل إطار خشبي كبير وأغضب إن تجرأ أحد على تغيير مكانها . لقد حرمتني حضورك كما حرمني الله رؤيتك، رجوته كثيرا أن يجعلك من العدم تظهر أمامي لكن رجائي لم يكن شفيعا عنده، بكائي حتى ساعات الفجر الأولى لم يكن شفيعا أيضا. كثيرا ما أتسائل أي ذنب ذاك الذي إقترفته طفلة صغيرة حتى لا يحقق لها الرب رماني عيد ميلادها !! أي ذنب ذلك الذي اقترف طفل الحرب حتى يدفن حيا تحت الركام ولا صوت ينجيه . أشعر أحيانا أنني أكرهك ولكن أخبرني كيف لي أن أكره الله !؟ كانت لي جلسات عدة مع الله، أحادثه عن ما يخالج قلبي من ثورات غاضبة عن حال طفولتي. لأبعد حد كنت صريحة معك يا الله، صافية كمرمر لا شقوق تسوده. تقول لي أمي أنك تعلم مبلغ السوء الذي أصابني و أنني كائن من الشفاف أمامك، وأنك ستجيب دعائي ذات يوم. أنا يا الله لا أريد الذات يوم، أريد الآن ، الآن عليك أن تعيد لي والدي، لقد قدمت لك كل قرابيني، صلاتي الأولى و صومي الأول و زكاتي الأولى، عليك أن تفي بوعدك يا الله ..لا يمكنك أن تتجاهلني كما لو أنني لم أخلق.

فصل آخر يتوغل أكثر، و لن ترافقني المشي تحت أمطاره صباحا، لن يكون هذا الفصل استثناءا عن غيره ، لن نسير جمبا إلى جنب ولن نعبر الشارع معا، كثيرا ما كان حلم طفولتي أن أقطع الشارع برفقتك، كبرت و لازلت أغمض عيني كلما قطعته لعلي أرى طيفك في الجهة المقابلة، تحمل ذات الحقيبة البنية تبتسم لي، تلوح لي. لن تتسنى لي فرصة أن أمسك يدك ورن تحمل عني حقيبتي المدرسية وأن تسألني ذاك السؤال الذي سئم الأطفال من الإجابة عنه : - كيف حال المدرسة اليوم ؟ - جيدة...

هكذا كانوا يصرخون و هكذا كنت أتمتم.

أردتك أن تعلمني كيف أكتب أول حروف اسمي، كيف أعد أرقامي وأعدادي كما أعد الان خيباتي وانكساراتي، كم رغبت طوال سنوات طفولتي أن أثرثر لك عن كل تفاصيل يومي ،كيف أن تلك القطة الغبية نطت من على السور هربا مني حين أردت أن أقدم لها حليبا دافئا، كيف أنني اقتسمت تفاحتي وهي كل ما أملك يومها مع جليستي في الصف، أردتك أن تربت على كتفي بكل فخر وأن تقول"هذه ابنتي التي ربيت ".

أردت اخبارك كيف أنني دفنت عصفوري الصغير تحت تراب حديقة بيتنا، حزنت كثيرا يومها، لم رجد من يحمل عني حزن قلبي لموت عصفوري، لم أخبر أمي انه قد توفي وأكملت يومي في صمت ملفت وحداد مطبق، أمي تكره العصافير تقول أنها سوف تهاجر مع بداية الشتاء كما هاجرت أنت من قبلها مع بداية الشتاء.

كم تشبهك أمي بالعصافير !!

دائما ما أعود الى البيت حين ينتهي دوامي المدرسي وحيدة من دون أن يكون هناك أحد في استقبالي، وأن حالفني الحظ، تستقبلني والدتي عند الباب وفي نظراتها أقرأ أن ساعي البريد لم يأتي اليوم ايضا.

لقد مرت السنوات، و ها أنني اليوم أبكي غيابك عنا بعينين كبيرتين جدا، مخيفتان جدا، لا أدري لم قد وهبني القدر أعين بهذا الحجم من الكبر. أنظر إلى جلدي و عيناي، قد تناسبا في اللون الأخضر و الحجم الكبير حتى أبدو كما لو أنني كائن فضائي غادرته اخر رحلة نحو أرض لا تكفيه...

أعلم أن ما أخطه هنا على طول هذا الإمتداد الضيق من البياض لا يقرأ منك، وأعلم أن أبجديتي لن تغير في الواقع شيئا وأنك لن تأتي، وأن من اختار الغربة والرحيل لن تعيده الأحرف وشمس الربيع القادم .