ما بين مقولة محمد شكري: "على المرء أن يبقى مشغولًا للحد الذي يلهيه عن تعاسته"، ومقولة غازي القصيبي: "العمل لا يقتل مهما كان شاقًا وقاسيًا، ولكن الفراغ يقتل حتى أنبل ما في الإنسان" برهانٌ كافٍ على كون الفراغ يجرُّ معه كل ما هو معنيٌ بتعاستك.
الفراغ.. مستنقع التعاسة
رغم أن كبار الفلاسفة يتفقون أن الحركة هي الحياة ربما قال ذلك أرسطو أو آينشتاين لا أتذكر بالظبط، لكن حتى مقولات هؤلاء العظماء لا يمكننا أن نسلم بها، فالبعض يسعد جداً في الفراغ ويمكن أن ننتقل من هنا لقضية تمس الموضوع وهي قدرة الإنسان على إسعاد ذاته وأن يجد ما يفرحه، فالبعض في الفراغ قد يميل لتقليب الأحزان والتعاسة، والبعض الآخر سوف يخلق عمل فني أو إبداعي ليس كهروب من الفراغ بل بإنسيابية معه..
أوافقك تمامًا أن الفراغ قد يكون مساحة خصبة للإبداع والوجود الهادئ لمن تعلم كيف يصادق نفسه ويستمتع بمساحته الخاصة وهذا ليس فراغًا ففكرتي كانت تنطلق من "الفراغ السلبي" ذلك الفراغ الذي يتحول إلى حفرة للقلق والاجترار. أما "الفراغ الإيجابي" الذي تتحدث عنه ،حيث يولد الإبداع والسلام الداخلي فهو ليس فراغًا بالمعنى الحرفي، بل هو انشغال بالذات وبما يثريها.
المقولة الثانية كنت أعتقد أنها لأحمد خالد توفيق، بحثت ووحدتها فعلا لغازي القصيبي، شكراً لك. لكن أختلف نسبياً مع مقولة محمد شكري، فلا يمكن أن نحل التعاسة بالإنشغال فقط، هذا يعتبر مجرد مسكن كما وضح أنها ستلهيك عن تعاستك، لكن وجهة نظر أخرى العمل الذي نعمله لا لنهرب بل لنبني في داخلنا معنى للحياة هو ما يجعلنا نتخلص من تعاستنا، خصوصًا إذا ما كان العمل بشغف وبحب.
مع احترامي للمقولات التي ذكرتِها، إلا أن كثيرًا من الفلسفات التي نرددها بدون فحص قد تدمّر حياتنا دون أن نشعر. نقضي سنوات نطارد الوهم… نلهث خلف خيط دخان، ثم نكتشف في آخر الطريق أننا لم نكن نعيش بل كنا نهرب.
فكرة أن “يبقى المرء مشغولًا للحد الذي يلهيه عن تعاسته” هي أخطر خدعة تتبعها غالبية البشر اليوم. بالله عليك، هل هذه حياة؟ أن نهرب من داخلنا بالعمل، والانشغال، والضجيج؟ هذا بالضبط النهج الذي صنعه المستغلّون ليعمل الناس كالعبيد ليل نهار دون أن يسألوا أنفسهم: من نحن؟ ماذا نريد؟ وماذا يبقى منا في النهاية؟
النهج الحقيقي الذي يُحارَب دائمًا هو أن تبحث عن روح الله داخلك… عن البهجة المطلقة… عن السلام الداخلي… عن لحظة الـ nirvana التي لا يصنعها العمل ولا الشهرة ولا الانشغال، بل يصنعها الحب.
يقول الأسطورة بوب مارلي:
“All we need is love.”
ومن وجد الحب – بمعناه الواسع، حب الحياة، حب الله، حب الذات – وجد المعجزات، وجد السحر الحلال، وجد الإيمان الحقيقي.
مع كامل الاحترام لرؤيتك يا عباس، لكن يبدو أن هناك خلطًا بين الهروب من الفراغ واستثمار الوقت في فعلٍ ذي معنى. الانشغال لا يعني بالضرورة التهرب من الذات، بل قد يكون وسيلة لاكتشاف النفس وتطويرها، خاصة إذا كان العمل أو النشاط مرتبطًا بالشغف أو الإبداع، لكن الفراغ قاتل ليس لأنه يسمح لنا بالاستبطان، بل لأنه يحرم الإنسان من صقل طاقاته وإشباع فضوله الداخلي. أما الحب والسلام الداخلي، فهي بلا شك قيم أساسية، لكن بدون عمل يملأ الروح ويصنع الإنجاز، يظل الحب مجرد شعور بلا جذور، والسلام الداخلي مجرد وهم جميل.واعني بكلامي أن الانشغال لا يلغي معنى الحياة، بل يمنحها إطارًا، بينما الفراغ قد يحوّل أرقى الأفكار إلى تعاسة. الحكمة في المزج بين العمل المحبب، والحب، والهدوء النفسي، لا في الانغماس الكامل في أحدهما على حساب الآخر
التعليقات