"اركض، اركض و إياك التوقف!" يأمرني الصوت اللاهث في رأسي، لا أدري كم مضي من الوقت و أنا أركض في هذا الوادي، التفت خلفي فلا أجد من الرفاق أحد، استمر بالركض وحيداً تحت شمس القيظ في هذه البقعة النائية، أوتار ساقي الملتهبة و براعم صدري اليابس تناقش مع إرادتي الواهنة فكرة التوقف و الاستسلام، ثم تأتي رصاصة نارية من فوق رأسي لتعزز الفكرة، "قف عندك!!" أقف، أرفع يدي عالياً، أخضع للصوت القادم من الأعلى، يستكين قلبي لطعم النهاية، أخيراً انتهت هذه المطاردة، ثم تتوالى الإجراءات الروتينية، الأصفاد في اليدين، الطريق إلى المخفر، تحدق بي عدسة الكاميرا، اسمك و اسم أمك، تخلع عنك ممتلكاتك الشخصية،حذاءك و حزام بنطالك و إحساس الإنسان العادي بالزمن، ثم يغلق عليك باب الزنزانة، في الليلة الأولى لا تنام، بل تحدق بالسقف مقشور الدهان، و بالكاميرا المحشورة بالزاوية، في مثل هذه اللحظات اعتدت أن تغادر الانفعالات وجهي، هذا مكان موحش ٱخر، و هذا يوم سيء ٱخر اغرزه في مسبحة عمري، أغمض عيني، و يتلاشى كل شيء إلا هذا السؤال الذي يأبى الرحيل منذ سنين: "إله العرش، ما الذي أفعله هنا؟"
أسترجع هذه اللقطة السينمائية من شريط حياتي و أنا ممدد على الفراش في اوتيل شعبي رخيص، ثم تعمل الذاكرة السلبية كعمل خوارزميات التيك توك في في استعراض عشرات المواقف و الذكريات المماثلة، حينها يداهمني شعور فج بالقهر و الغربة، في مثل تلك اللحظات كنت قد اعتدت على الاستماع إلى موسيقى تصويرية حزينة أجدها في اليوتيوب ليتعزز لدي شعور الحزن أكثر، أما في تلك اللحظة فقد رميت الجوال جانباً و اعتدلت في جلوسي، رفعت يدي و دعوت: "اللهم إني أعوذ بك من الهم و الحزن"، و هنا لا أدري كيف تفتت صخور كانت في محاجري، و انهمرت دموعٌ لم أعلم بوجودها، كنت أشعر بامتنان الجذور اليابسة لطعم المطر، كان الدعاء قد نقلني من أحشاء الغرفة المتسخة الضيقة، إلى عالم فسيح فيه الملايين و الملايين من الكائنات الحزينة المنكسرة ممن يدعون الدعاء ذاته، يتلفظون الكلام ذاته، و يتوجهون بقلوبهم إلى الرب الواحد ذاته تعالى شأنه.
تشذب الدموع من أشواك هذا الحزن، إلا أنها لا تمحقه، فهذا الحزن ليس كأي حزنٍ عارض، أعلم أني لست وحدي من ابتلي به، أعلم أن هناك الكثيرين و -قد تكون أنت يا عزيزي القارئ- ممن يداهمهم ذلك الحزن البهيم، نعم أستطيع أن أحصي لك من الأسباب الكثير، و قد أقنع نفسي أن هذا الحزن سببه هذا السبب أو ذاك، و قد يكون مزاجاً سوداوياً في طبعنا، قد يكون اعتلالاً في الهرمونات أو عوزاً في إحدى الفيتامينات، أو صدمة في الطفولة، لا أدري، فهذا الحزن تسرب إلينا مع دماء المشيمة، عجن بأرواحنا منذ خلقنا، قسمتنا و نصيبنا في هذه الحياة، قد تخرسه مضادات الاكتئاب، و قد يحجبه حفلة مع الأصدقاء، إلا أنه لا يرحل، ستحاول الهروب منه، تغير موقعك الجغرافي، تبدأ علاقة، تنهي علاقة، تبدأ عملاً، تحضر حفلاً، لكنه لا يرحل، و قد تنسى وجوده فترةً ثم يسألك أحدهم في لحظة شرودك : " أيا هذا لما أنت حزين؟" لم تكن لتعلم أنه قد غافلك و فاض من عينيك، فهذا الحزن البهيم كما -ستدرك لاحقاً- كائن حي يحتاج إلى التنفس كمثل حاجتك، هذه الحقيقة التي أدركها الفنانون و الشعراء، لذا فإنك ستجد في كل لوحة فاتنة و في كل رواية و قصيدة ماجدة، بضعةً من ذلك الحزن البهيم.