كان واجبًا عليّ الحديث عن المشي والتفكير، وتبيان أنّهما أمران مهمّان، لا يُمثّلان هرُوبًا عن مواجهة الواقع، أقصدُ بالواقع سذاجةَ الأحاديثِ المنتشرة بيننا، نحنُ البشر، وخاصّةً تلك الأحاديث التي تقعُ تحتَ ألسُن أفراد العائلة، المثيرة للاشمئزاز والنفور الحادّين بدون فائدةٍ كبيرة أو صغيرة. إنّني أمشي وأفكّر في غمرة ذلك، من أجل فهم ما يُحيط بي أكثر، وما يُحيط بغيري، من الجيّد، في بعض الأحيان، أن نعقل الظروف التي تُساهم في تشكيلنا وتشكيل غيرنا. إنّ فعل المشي يُؤدّي بطريقة ما إلى عُزلة خفيفة، لا تشمل كهفًا وظلمة، من أجل التبتّل الزائف، لكنّها تحفظ بعض الرمق للذهاب بعيدًا بالعقل والخيال، ثمّ إنّه يسمح - إذا كنتَ تملك نظرًا جيّدًا، ولو بشكلٍ جزئيّ - في الرؤية والتأمّل، لأنّ الحياة حُبلى بالأفكار، وما تبقّى بالنسبة لنا هو إجراءُ عمليّةِ الولادة، ولو كانت قيصريّة، لا أفكار بدون دماء. كنتُ أسيرُ ذات مرّة، في شارعٍ أجهله، تحت شمسِ الأصيل، وقد تسألُ: لماذا شارعٌ مجهول؟ (قد لا تسأل، لكن هذا لا يهمّ لأنّني سأجيب في كلتا الحالتين)، سأجيبُ بأنّ خوض طريقٍ غير مألوفة، لا تعرفُ جنباتها ولا رُوّادها أمرٌ حسنٌ، فهو يُتيح لكَ بعض اللذّة في الهِيَام والغرق بذهنك ورجليك من جهة، ومن جهة أخرى (وهذه الجهة تشبه الجهة الأولى، لسبب مجهول هو الآخر) تزيد من حظوظ فقدانك لخيط الطريق الأصليّ والمعروف عندك، وهذا ما يُؤدّي بشكلٍ طرديّ إلى زيادة حظوظ تحريك عضلات مؤخّرتك المهترِئة بالجلوس. في سيري ذلك أوقفني أحدُ الكهول بسيّارته قاطعًا عليّ الطريق، قائلًا: تبدُو متعَبًا، ابتسم قليلًا، ثمّ أكمل دربه وهو يضحك. لم أكُ متعبًا في الحقيقة، لستُ كذلك، ولا مهمُومًا، فأنا في نهاية المطاف لا أحمل أفكارًا ضخمة تُؤرقني، وتسلب عنّي ابتسامتي، إنّما أنا سعيدٌ، بطريقة ما، السؤال هو: هل يجبُ أن تراني سعيدًا؟ لا. بكلّ بساطة ووضوح: لا.

إنّ الأشياء التي تُعلِّمنا صعبة، مملّة، وجالبة للضجر الخانق، لكن يجبُ علينا القيام بها، إنّها الطريقة الوحيدة للسموّ فوق الهراء المُعاش، رغم أنّ اللذّات اللحظيّة تأخذنا من ألبابنا، خاصّة تَتَابعها وترادفها، نحنُ غير قادرين في بعض المواضع على المقاومة، تذوب أيدينا في الوحل الساخن، تاركين ذلك التركيز المرتبط بقضيّة واحدة، تاركين كلّ شيءٍ، حتّى مبادئنا التي صنعناها في سنواتٍ طويلة، فكّرتُ - أثناء سيري - بأنّنا نفقد إرداة القوّة، نحنُ نعيشُ بدون إرادة، بدون قوّة. في ناحية واحدة، الكثيرُ منّا يفقدون الإرادة لقراءة كُتُب صعبةٍ، تلك الكتب القليلة التي تُحدِثُ تغييرًا في العقل، أو تربّي على طرح الأسئلة التي تُقلق أصحاب الصخور المجوّفة (الأصنام)، إنّ تلك الصفحات الثقيلة والنادرة، خيرٌ من آلاف الصحائف البالية، التي تُحرّك الأهواء وتُسكِتُ العقل.

أُكملُ سيري... قبل المغيب انتشرتْ نسمة لذيذة، تسلّلت بكلّ أناةٍ إلى صدري، كانت حقنة ثقيلة من الذكريات، تُوقظ المشاعر العميقة والعنيفة، مشاعرٌ تُجاه شخصٍ واحد، تخصّ فردًا واحدًا، تفكّر في احتماليّة أن تكمل حياتك معهُ (إنّ احتمال عيشكما سويّة هو مشروع)، أو تريد ذلك، رغمَ جهلك بمنبع هذه الإرادة، ثمّ تسأل: كيف يُمكنك تحمّل مسؤوليّة هذه الإرادة إذا وقعت؟ هذه المشاعر الملتهبة، ثمّ المنطفئة، تخبُو بقدر ما تشتعل، لا تفهمها بقدر ما لا تفهم كِيانك الحامل لها، والحالم بها. نعم، قد تكُون هذه الأحاسيس وهمًا، قد تكُون أنت لا شيء، ومشاعرك لا تعدُو أن تكون هراءً، يُضاف لقائمة الأشعار الرخيصة والهابطة.

إنّ الكاتبَ (المفكّر) الجيّد، يُقدّم نصُوصًا جيّدة، لقرّاء جيّدين، وهذا نصّ قصير ومثير للبهجة، رغم أنّه مؤقّت.