《 أنت...نعم...أنت ! يا من تسمع صوتي و لا تراني. ماذا أنت فاعل هنا؟ لست بالمكان المناسب لك. هل ضللت الطريق؟ أم تراك أنت من يرغب في تجرع الضلالة ؟ 》

كان صوت مخاطبه مرعبا و مجلجلا ، رغم أنه بدا له مألوفا نوعا ما. إعتقد جازما أنه سبق له أن سمع تلك البحة المخيفة التي تطغى على ذلك الصوت. لكن أين سمعه ؟ و متى أنصت له ؟ كان صوتا قويا يبث الخوف في كل من يسمعه، مزمجر كأنه هزيم الرعد المعلن عن اشتداد العاصفة.

لم يعرف بعد لا مصدر ذلك الصوت و لا حتى هوية من يوجه كلامه إليه. لا يدري إن كان هناك من يكلمه أصلا، أم أن الإرهاق تمكن منه كما يتمكن البنج من المريض، حتى صار يهذي و يتوهم أمورا لا وجود لها في الحقيقة. من شدة المفاجأة و هولها، فضل أن يكذب أذنيه السليمتين. قرر أن يدير ظهره لحاسة سمعه و يشهد زورا أنها معطلة.

لا...لا...إنها ليست بأوهام. فها هو الصوت يتكرر مرة أخرى. ينادي عليه هذه المرة بإسمه و إسم أمه...مما يعني أنه يعرفه حق المعرفة. لم تتغير لا نبرة مخاطبه و لا أسلوبه المريب في الكلام .و كأن الأمر يتعلق بشريط صوتي أعيد تشغيله للمرة الثانية.

إستولى عليه الخوف كما يستولي الجيش المنقلب على السلطة. سيطرت عليه الوساوس كما سيطرت البحرية العثمانية في أيام عزها على البحر المتوسط، و أحكم الرعب قبضته عليه...

فقد السيطرة على أعصابه و انفكت براغي رزانته. إهتزت الأرض من تحت قدميه من دون حدوث أي زلزال. هل هي الأرض بجنابها و جلال قدرها من اهتزت حقا ؟ أم أنهما قدماه الواهنتان من ترتعدان لا إراديا؟ في كلتا الحالتين، إن الانهيار الكلي هو النتيجة الحتمية الوحيدة. خارت قواه و خر ساقطا على ركبتيه، فلم يعد يقوى حتى على الوقوف.

بمجرد أن سقطت أطرافه على الأرض، إستغرب ملمس التراب و لونه الغريب. رغم كونها شبيهة بتلك التي اعتاد على رؤيتها دائما، وجد أرضية هذا المكان المجهول لزجة كالعجين، إسفنجية شديدة السواد، تفوح منها رائحة العفونة و كأن أشعة الشمس الدافئة لم يسبق لها أن قبلتها.

على رأسه الصغيرة و المدورة على شاكلة الكويكب، تساقطت نيازك من الأفكار المرعبة. تأذت رأسه من شدة سقوطها عليها و من قوة ارتطامها بها. تعطلت بوصلته فضاع عنده مفهوم المكان. فقد أسطرلابه العتيق حتى تاه عقله في الفضاء الواسع بين الأجرام . كما تكسرت ساعته الرملية حتى تفككت الساعات و الدقائق بتشتت حبات الرمل.

هل توقف الزمان فعلا ؟ و هل تبدل المكان حقيقة؟ و هما اللذان لا يخضعان لسلطان أحد من الخلق ! أم تراه هو من تجاوز الحدود و اخترق بعدا آخر من غير قصد منه؟ المهم أنه الآن في مكان غريب لم يزره قط من قبل و لا حتى في أحلك كوابيسه، و في بعد زمني لا يدرك إن كان ماضيا أم حاضرا أم مستقبلا...؟

تقاذفته المخاوف كما تتلاعب أمواج البحر الهائج بالسفينة الصغيرة مكسورة الأشرعة. و التهمته التساؤلات المرعبة بشهية نهمة كما تتداعى الأكلة على قصعتها. يا له من مسكين، لم يعد يحتمل ما يحدث له، و كاد أن يغمى عليه من هول ما يمر به. إلا أن الصوت الغريب منعه حتى من ذلك.

بدا الصوت قريبا و دانيا هذه المرة. خفت حدة زمجرته و تبددت قوة هزيمه. أعلن ضمنيا عن هدوء العاصفة الهوجاء. دنا من أذنه اليسرى حتى أصبح قاب قوسين أو ادنى، ثم خاطبه هامسا :

《أيها الإنسي،

أنت تعلم أن الإنسان مكون من جسد مادي و من روح. و أنت تعلم أيضا أن لكل واحد من هذين العنصرين احتياجاته الخاصة.

فكلما اهتم الإنسان بروحه و غذاها كما ينبغي لها، إلا و اقتربت روحه من الملائكة و نورانياتها ، فترتقي و تعرج إلى السماوات العلى، حتى تصبح بذلك مصاحبة لها ترافقها في حلها و ترحالها.

و كلما أهمل الإنسان روحه و بالغ في إشباع الرغبات المادية لبدنه، إلا و اقتفى أثر الفتن و غرق في المستنقع النتن للشهوات...و لا يزال على تلك الحال حتى تتدحرج مرتبته إلى الحضيض، و يقترب من القاع المظلم للأرض. و هكذا نكون قد استحوذنا عليه نحن معاشر الشياطين...

أيها الإنسي،

تعال معي لكي أريك الطريق الوعرة، التي يسلكها من يتبع نهجنا و يقتدي بملتنا ! 》

هل سمعه يقول كلمة "شياطين" أم أن خللا ما لم بأذنيه؟ أتحدث ذلك الملعون عن طريق مشؤومة لا يسلكها إلا الشياطين و من على شاكلتهم؟ هي إذا دعوة خاصة لاستكشاف العالم السفلي و الطرق المعوجة المؤدية إليه؟!

بمجرد أن لفظ عبارة : " تعال معي"، تغير المكان الذي كانا فيه، و تبدل المشهد الذي فتح عليه عينيه في بادئ الأمر. هنالك تغيير ما طرأ على الإنارة و تدرجاتها، فقد أضحت خافتة أكثر من السابق. تم استبدال الأصوات الأولى و مصادرها بأخرى شبيهة بالموسيقى التي تستعمل في أفلام الرعب و الإثارة. لم تعد هناك حاجة لاستعمال ألوان الطيف، لأن الموقف الآن يحتاج إلى ألوان الشيطان...

ما سر كل هذه التغييرات؟ و كأن مهندس الديكور غير تفاصيل كل ما ستحط عليه عينيه. ربما لأن المخرج المجهول سينتقل إلى تصوير مشاهد أخرى، أكثر ترهيبا من سابقاتها، حتى يكمل هذه التمثيلية المخيفة.

إلتفت يمنة و يسرة...ثم أرجع بصره كرتين...يبحث عن محدثه و لكن من دون جدوى. سرعان ما تذكر أنه أمام شيطان مارد، و استحضر قوله سبحانه و تعالى : " إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ". فأدرك أنه لا فائدة ترجى من البحث عنه.

استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، و حاول أن يسيطر على مخاوفه بعد أن بطل العجب. إستجمع قواه و قرر أن يخاطب من لا يراه. بهذا تحدى نفسه و مخاوفه قبل أن يتحدى مخاطبه الخفي. من دون مقدمات و لا تلعتم، استفسره قائلا :

《- ماذا تريد مني أيها اللعين؟

- أريد أن أريك الطريق التي يسلكها من يتبع نهجنا و يمشي تحت لوائنا. ثق بي، فسأصدقك القول و إن كنت كذوبا.

- و لماذا هذا الكرم الشيطاني؟ فأنا و كل من على ضهر هذه البسيطة لا نعرف عنكم شيئا سوى سمعتكم التي تسبقكم في الشرور، و لم نسمع سوى عن خبرتكم العتيقة و الأزلية في الوساوس، و لم نرى منكم إلا إتقانكم الخبيث للفتن و التضليل.

- حتى تعرف خارطة الطريق المؤدية إلينا في حال ما اخترت أن تكون في فريقنا، و لكي تتجنبها و تتجنب الشعب المؤدية إليها... إن أنت فضلت أن تكون في الفريق الآخر.

- منذ متى اعتنقت دور الواعظ المرشد؟ كيف لك أن تنصح من هو عدو لك؟ و كيف لي أن أصدق من أخبرني عنه رب الثقلين أنه عدو لي و أمرني باتخاده عدوا ؟

- لا تعقد الأمور أيها الإنسي العنيد ! فالقضية في غاية البساطة. قس ما أخبرك به على ميزان شرعكم و على منهاج شريعتكم أيها المحمدي. فإن تطابق معها فصدقه، و إن تناقض معها فلك أن تكذبه...و يبقى كل شيء نسبيا يا...عدوي ! 》.

بسرعة خاطفة تبدل المشهد أمام عينيه. رأى بمقلتيه البنيتين أبوابا كبيرة الحجم، أحس أمامها كأنها بوابات الجحيم. بيضاوية الشكل، متموجة الأطراف، دفاتها العظيمة مصنوعة من مزيج الفولاذ الأسود و النار. من شدة سوادها تحسبها ثقوبا سوداء في قلب الفضاء. مفتوحة على مصراعيها للراغبين في الدخول، و موصدة بإحكام لكل طامع في الخروج.

لم تكن أبدا كالأبواب الأخرى المعلقة في الجدران، بل كانت محفورة في الأرض. من شكلها الخارجي النادر و من موقعها الغريب، يمكن التكهن بأنها بداية لأنفاق لا نهاية لها...أنفاق مظلمة تمتاز بالعتمة الحالكة، و تنبعث منها الروائح الكريهة و النتنة.

فجأة ...إبتلعته تلك البوابات حتى من دون أن تفتح و شفطته إلى الداخل، و كأنه قشة لا وزن لها سحبتها المكنسة الكهربائية من على السجاد.

《- اللعنة عليك ! إلى أين أخدتني هذه المرة أيها الملعون؟ 》.

لم يسمع غير صدى صوته يتردد في المكان. إنتظر أن يجيبه مخاطبه كالمرة السابقة، لكنه لم يسمع أي شيء هذه المرة. هل تعطلت أذناه بحق هذه المرة؟ لا ! كيف يعقل ذلك؟ و هو لا يزال يسمع ذلك الصدى يتردد في الأفق المظلم ؟

《- لا تنتظر منه أن يجيبك، فقد إنتهت مهمته و عاد أدراجه.

- من أنت؟ و ماذا تريد مني أنت الآخر؟

- أنا خازن هذا النفق و المشرف على كل من يرد إلينا من الإنس. كلفت باستقبالك عند مدخل البوابات، و سأكون دليلك و مرشدك في هذه الرحلة...صدقني ستستمع بصحبتي.》

أطلق العنان لعينيه المدهوشتين. بحركات دائرية متتالية، تفحصتا المكان من الأسفل إلى الأعلى، و من اليمين إلى اليسار. أدرك أنه في بداية نفق طويل لم يعرف له أية نهاية.

لاحظ أن مداخل النفق في بدايتها واسعة جدا، إلا أن جدرانه المسننة بالأحجار البارزة لا تنفك تضيق. سقفه، الشائكة بقرون الشياطين، تزداد انخفاضا كلما اتجه نحو الأمام. كانت أرضيته زلقة جدا، منحدرة خطيرة الانحدار، وكأنها طريق سريع نحو الهاوية. أفعوانية الشكل تشبه في تداخلها أمعاء الجهاز الهضمي.

حاول أن يستوعب الوضع، و تأكد أنه لا بديل له عن إنهاء هذه الرحلة المشؤومة. لا بد أن يجد طريقه نحو الخارج. لا بد أن يخرج من هذا النفق المرعب و يعود إلى حياته الطبيعية. لكن هل إلى خروج من سبيل؟ و أين المفر ؟ و متى لحظة النجاة المنشودة ؟

خطى بعض الخطى نحو الأمام، فإذا بالخطوة بقدرة قادر تقطع الأميال برمشة عين. وجد نفسه في قلب النفق، لم يعد بإمكانه الرجوع إلى الخلف. و حتى تقدمه نحو الأمام لا يخلو من مخاطر و آفات. و إذ هو كذلك، خاطبه دليله الشيطاني قائلا:

《 أ ترى هذه الألوف المؤلفة من البشر و هي تدخل عالمنا؟ هل ترى تلك الجيوش من بني جلدتي و هي تقودها و تسوقها كما تساق الأنعام؟ 

أنظر هناك، عن شمالك في وسط المنحدر، هنالك قرب نافورة الدم تلك، أ رأيت؟ أولئك الذين ضاقت عليهم حيطاننا و سقطت عليهم سقفنا، فجثوا على ركبهم و حبوا على أطرافهم. هنا يسجدون لنا بعد أن يغتلسوا بالدم الآسن، كما تسجد أنت لربك بعد وضوءك بمياه طاهرة.

و انظر هناك، عن يمينك في نهاية المنحدر، هنالك بجوار تلك الأصنام الكثيرة و الكبيرة، أ رأيت؟ أولئك الذين يلجون إلى " متاهة الشيطان ".

يدخلونها بعد أن يسجدوا لتلك التماثيل الضخمة. صنم للمال، و صنم للشهوة و آخر للجاه و المنصب. لكل منهم إله يعبده و يحرص على تبجيله. يدخلون متاهتنا بإرادتهم، يلهتون فيها سعيا لإرضاء آلهتم و يتوهون فيها لأعوام طويلة. لا يخرجون منها إلا في توابيت نحو قبورهم...نحو متواهم الأخير.》

تأثر قلبه من قسوة المشاهد المقززة التي رآها. هاله ما شاهده من مناظر مرعبة. ازداد تأكده من أن الشياطين هم أسياد المكان. يتحكمون هنا في كل صغيرة و كبيرة. يقودون الداخلين من الإنس بكل خبث إلى حتفهم المحتوم.

راغبا في إنهاء هذه الرحلة المشؤومة في أقرب أجل ممكن، واصل مسيرته نحو الأمام المجهول، متسلحا بإيمانه القوي المتجدر في قلبه ، و متدرعا بعزيمته التي لا تنكسر.

تخطى الحواجز الشيطانية و تجاوز المطبات الإبليسية. سارع الخطى و كأن بساط الريح تحمله. غض الطرف عن كل المغريات اللواتي اعترضن سكته و عن كل الفاتنات اللائي تقربن منه. كان يعلم علم اليقين أنهن لسن سوى سهاما من أسهم إبليس، إن هو أمعن النظر فيهن، غرسن سهامهن المسمومة في قلبه.

ماذا حدث له؟ توقفت قدماه عن المسير، ثم تسمر في مكانه. لم يصدق عينيه و لم يستوعب الموقف. كانت حفرة ضخمة لا يرى لها نهاية و لا قاعا. تنبعت منها روائح قوية سدت أنفه و خنقت حلقه. كانت مزيجا من رائحتي الكبريت و تفاح الجن.

تصدر منها أصوات مخيفة، صراخ و أزيز و أنين. تداخلت الأصوات حتى صارت ضجيجا واحدا، يتشكل في صورة ثعبان أسود، يتسلل عبر طريق الأذنين إلى الدماغ حتى يعشش فيها.

لم يحس و لو للحظة واحدة بالمكيدة التي حيكت ضده، و لم يكتشف إلا متأخرا ذلك الفخ الذي نصب له بخبث...حتى رأى جسده المنهك يهوي في تلك الحفرة السحيقة.

《 كم أنت ساذج أيها الإنسي !

أصدقت فعلا أنك تستطيع الخروج من هنا؟

أخبرتك آنفا أنك ستستمتع بصحبتي و قد كنت صادقا معك.

ألقيت بك على حين غرة إلى قاع الحفرة حتى تخلد فيها مستمتعا...

فاستمتع بالمتبقي من عمرك معنا و بيننا ! 》

هوت به الريح إلى مكان سحيق. أرادت خفافيش الظلام أن تتخطفه. رأى نفسه متوجها نحو حتفه. لم تكن الجاذبية التي نعرفها هي من تهوي به نحو الأعماق، بل كانت أفواه الشياطين القابعة في الأسفل هي من تجره نحوها ، و جوهها و كأنها قطع الليل المظلم.

تأكد من أن نهايته أضحت وشيكة. لا مفر له من الموت و لو كان في بروج مشيدة. سلم أمره لخالقه، استرجع شريط حياته من أول يوم إلى آخر لحظة قبل هذه الرحلة الملعونة، أغمض عينيه المفزوعتين و هو يشيع هذا العالم، ثم طفق يتمتم هامسا بالشهادتين: 

" أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمد رسول الله "

ثم صرخ بأعلى صوته :

" أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ "

لعل أبواب السماء كانت مفتوحة حينها، أو قد يكون دعاؤه صادف ساعة استجابة، أو ربما كان رجلا تقيا مستجاب الدعاء.

حينما استيأس كليا و ظن أنها النهاية، و قبل لحظات قليلة من أن يرتطم جسده المتهاوي بالقاع السحيق، تلقفه طائر نوراني.

يا ترى من أين أتى ذلك الطائر الغريب ؟

كان طائرا نادرا لم يرى من قبل قط، أبيض اللون ناصع البياض، عملاقا ضخم الجسد و كأنه العنقاء، واسع الجناحين، طويل الساقين. وضعه فوق ضهره و حلق به عاليا، مبعدا إياه عن تلك الأفواه البشعة التي كانت في انتظاره.

《 - من أنت أيها الطائر العملاق؟

- أنا عملك الصالح، و كل حسنة قمت بها و كل آية من القرآن رتلتها .

أنا رضا الوالدين، و كل دعوة خير أتتك في ظهر الغيب و كل صدقة تصدقتها سرا و علانية.

أنا كل ورد من الذكر داومت عليه، و كل صلاة على الحبيب صلى الله عليه وسلم عطرت بها لسانك و كل كلمة طيبة تصدقت بها في وجه إخوانك.

- لماذا أنقذتني و قد ظننت أني هالك؟

- بعد أن تحمد الله حمدا كثيرا و تشكره، أظن أنه عليك أن تتذكر قوله سبحانه وتعالى: " فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ . لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُون ".

لو أنك ما عرفت ربك في الرخاء لما أرسلني إليك اليوم منقذا في هذه المحنة.

و تدبر أيضا قوله تعالى :" حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ" .

لقد وصلت إلى حافة الموت، و انهارت كل قواك و تدمرت كل حصون دفاعاتك، إلا أن إيمانك لم يخبو فتذكرت الشهادتين، و ناديت على من يجيب المضطر إذا دعاه، فكان حقا عليه أن ينجيك و ينصرك.

- بالله عليك أيها الطائر الحكيم، أخبرني عن كل ما رأيته. ما هذا المكان المظلم؟ من هم أولئك الملايين من البشر؟ لماذا هم يعيشون في هذا المكان المخيف؟ و كيف لهم أن يرضوا بتلك المعيشة؟

- على رسلك يا صديقي ! سأحاول أن أجيب على كل تساؤلاتك. لكن، رجاء لا تقاطعني !

يقول عز من قائل :

" وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" .

و قال أيضا على لسان إبليس اللعين :

" وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا" .

إن كل من يبتعد عن ذكر الله و عن الطريق المستقيم، يصير فريسة سهلة للشياطين. يضلونهم عن الطريق الصحيح، و يتبعون سبيل الضلال التي يشرف عليها الشيطان و أعوانه.

طريق الضلالة تلك هي ذلك المكان الذي رأيته و زرته، و هؤلاء المضللين هم أولئك الألوف المؤلفة التي رأيتها هناك.

و يقول سبحانه و تعالى : " وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ".

لقد كانت تلك الأنفاق شديدة الظلام، فلا يرون شيئا. و مع دوام الظلمة و استدامتها، يصيرون عميانا إلى أبد الآبدين. و فيما يخص ضيق جدرانها و انخفاض سقفها، فما هو إلا كناية على ضنك معيشتهم و على ضيق صدورهم.

أما أولئك الذين يغتسلون بالدم الآسن و يسجدون للشياطين، فهم كمن قال فيهم الحق سبحانه و تعالى : " وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا".

حتى صاروا لهم عبيدا يطيعونهم و يبجلونهم.

و أما أولئك الذين يسجدون لأصنام المال و الشهوة و المنصب و الجاه، ثم يدخلون متاهة الشيطان، فهم كمن قال فيهم الحق تعالى :

" أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ".

فمن الناس من يهوى المال و آخرون يحبون المناصب و أغلبهم يعشقون الشهوات، و يتخذون أهوائهم آلهة من دون الله. فيختم الله على أسماعهم و أبصارهم و يضلون و يتوهون.

بعد قولي هذا، أعتقد أنك عرفت الآن أن أولئك الشياطين قد صدقوك القول.》

بعد ما فرغا من حوارهما، كانت المدة كافية للتحليق و الابتعاد بعيدا، في الاتجاه المعاكس لبداية الرحلة.

سرعان ما وجدا نفسيهما أمام تلك البوابات الضخمة. تذكر أنها أن مفتوحة على مصراعيها من الخارج، لكنها موصدة بإحكام من الداخل.

طوى الطائر النوراني جناحيه الكبيرتين. و قف أمام الأبواب المغلقة، تأملها بعينيه الثاقبتين، باحثا عن كيفية فتحها. تفحصها مليا، ثم قال :

《- أ تريد الخروج من هذا المكان؟

- طبعا ! أريد ذلك بشدة...

- إذا عليك بالآذان يا عبد الله ! أذن بأعلى صوتك يا عبد الله !

- الله أكبر...الله أكبر...أشهد أن لا إله إلا الله...أشهد أن لا إله إلا الله....》

إختلط الصوت المدوي للآذان الخارج من حنجرته بصوت آذان صلاة الفجر، الصادر من إمام مسجد الحي، عبر مكبرات الصوت.

قام مفزوعا من نومه، و العرق يتصبب من جبينه و من كل جزء في جسده، لا شك في أنه كان كابوسا مرعبا. نفث ثلاثا في صدره و قال :

《أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...اللهم إني أستعيذ بك من شر ما رأيت...سلام قولا من ربي رحيم...

يا له من كابوس غريب ! شعرت و كأني عشته حقيقة لا مناما.》

قام من فراشه متحمسا، توضأ و أحسن الوضوء، ثم أخذ زينته من أجل الذهاب إلى المسجد، ليصلي الصبح مع الجماعة...حتى يثبت لشرذمة الشياطين تلك أنه فعلا مع الفريق الآخر.

الصلاة خير من النوم...الصلاة خير من النوم...واصل الإمام آذانه الخاشع.

الدكتور الزروالي محمد جمال الدين

دكار، ٠٦ مارس ٢٠٢٢