هبت نسائم العطلة السنوية فانحنت لها سيقان شقائق الذكريات و تراقصت على إيقاعاتها فراشات حب الوطن، و تأججت تحت تأثيرها نيران الشوق والحنين...بلطف كبير، ذاعبت نسائمها العليلة كل ذرة في القلب، فاندلعت ألسنة لهيب الرغبة في العودة إلى أحضان الوطن.

كثيرا ما سمعت عن الغربة و قسوتها، و قرأت عن مرارتها بين السطور التي ألفها العديد من رواد أدب المهجر، لكن أن تسمع عن شيء ما فهذا أمر و أن تعيشه بكل تفاصيله فذلك أمر آخر. أن تشاهد عبر شاشة تلفازك مصارع الثيران و هو يغرز سيفه بكل برودة في الثور المسكين، ليس كأن تكون بنفسك ذلك الثور الغريب الذي يتجنب طعنات الغدر و يستميت في الدفاع عن نفسه، في حلبة هو غريب عنها أصلا.

كيف للمرء أن يتحمل ألم فراق الأحبة و هو يعيش في أحضان وطن آخر؟ و كيف له أن يعيش وسط أناس في أغلبهم لا يرغبون بتواجده فوق تراب وطنهم؟ لا تسألو المسمار عن سبب دقه على الخشب،و لكن اسألوه عن وجع الضرب المتواصل الذي تحدثه المطرقة !

لو كانت الغربة رفاهية و رغد عيش لما جعل الأوائل من النفي في الأرض عقوبة لأعتى المجرمين و لأشد المعارضين، و لما جعل منها الشارع الحكيم إحدى عقوبات حد الحرابة و الإفساد في الأرض !

و هذا نبينا الحبيب عليه الصلاة و السلام عند خروجه مهاجرا من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، يقول بكل لوعة:

"و الله إنك لخير أرض الله وأحب أرضٍ إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك".

هل تعلم أن الوردة الجميلة لتغدو ذابلة إن هي نقلت من تربتها حتى و إن وضعت جذورها في الماء؟ فمهما حقق الغريب من نجاح و تألق في ديار غربته، فإنه يظل كسمكة المياه العذبة التي لا تستطيع العيش في المياه المالحة. و أحيانا أخرى، ولدواعي الاندماج في مجتمعه الجديد، فعليه أن يصير كالغراب الذي قلد مشية الحمامة حتى إذا نسي أصله و تنكر لجذوره، لم ترضى عنه لا أسراب الحمام و لا عصابة الغربان.

كما أنه و رغم تطور الطب و دقة العمليات الجراحية، فإن زراعة عضو جديد في الجسد البشري تقتضي أولا أن تتناسب الزمرة النسيجية للمتبرع مع تلك التي تخص الشخص المتلقي. كما أن نجاح عملية الزرع هذه لا يعفي المريض من أخذ دواء دائم حتى لا يرفض بدنه العضو الجديد و الغريب عنه، والذي غالبا ما يتم رفضه و لو بعد حين.

فلك أن تتمثل أن العضو المتبرع به كأنه هو المهاجر الغريب عن وطنه، و أن الجسد المتلقي هو البلد المستقبل له. فعملية الزراعة هي الهجرة، و تطابق الأنسجة ليس سوى الاندماج في المجتمع، لكنني صراحة لا أعلم ماهية الدواء و لا وصفته حتى يقبل المهاجر في مهجره !

من ناحية أخرى، إنه لمن الجور و الحيف الكبيرين أن لا نسلط الضوء على الجانب المشرق من الهجرة. من السنن الكونية أن في الحركة بركة، و لو أن الماء ظل راكدا لفسد و لما عاد صالحا للشرب و لا للوضوء حتى ! و لو أن رسولنا الكريم عليه الصلاة و السلام ما هاجر إلى يثرب لما انتشر الإسلام في جميع أصقاع الأرض، و لو أن المريض رفض زرع العضو الجديد لمات من جراء مرضه العضال.

صحيح أن كلمة " لو" تفتح عمل الشيطان، إلا أن الله سبحانه و تعالى يقول في محكم تنزيله :

"و مَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدْ فِى ٱلْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً

أي بمعنى أن إكراهات الهجرة في الأرض لا مناص منها و شر لا بد منه، إلا أن السعة آتية بعدها لا محالة و إن هذا إلا قول الحق من الحق سبحانه و تعالى.

كما أنه لمن رجاحة العقل و لمن سداد القول أن لا نحصر الهجرة في كونها ظاهرة إجتماعية و اقتصادية و حسب، بل هي أيضا ظاهرة نفسية بامتياز.

فكم من شخص يشعر بالغربة و هو وسط أهله و إن لم يغادر موطنه قط، و كم من امرء غير جلده و تنكر لأصله و هو لم تطأ قدماه بلدا غير بلده. فصدق رسولنا الحبيب إذ قال :

" إن المهاجر من هجر ما نها الله عنه

و صدق حفيده الإمام زين العابدين الحسين بن علي عليه السلام إذ قال:

"ليس الغريب غريب الشام واليمن .... إن الغريب غريب اللحد و الكفن"

د. الزروالي محمد جمال الدين