كنت أودّ أن أفتتح المقالة بأنّي تخلّيت عن ايربودي بشكل متعمّد لأسبوع، كمن يقصّ قصص تجارب الـ Dopamin detox على يوتيوب، لكنّ الأمر، ولبالغ الأسى، أتى عن طريق الصدفة، فكان أسبوعًا مليئًا بالأحداث عندي، وكان الايربود بلا شحن، فتكاسلتُ عن شحنه، بل وحتّى استخراجه من جيب بنطالي الأزرق.

عادة ما أقضي ساعات الطريق والاستراحات في الكلّية بسماع قوائم من القصائد العربية القديمة، المفضلّيات بصوت عبد الله الحسيني هي ممّا أكثرُ سماعة، لله درّه حين يبدأ المطالع بصوته الشجي: "هجرتَ أُمامةَ هجرًا طويلًا" و"يا من لقلب شديد الهمِّ محزونِ .. أمسى تذكّر ريّا أمَّ هارونِ"

لا أستطيع سماع أي بودكاست أو فيديو يحتاج إلى تركيز في هذه الأوقات، ولو فعلتُ هذا لشعرتُ بغثيان فكري ومغص نفسي، فآخر ما أريده هو صرف طاقاتي العقلية قبل بداية يوم دراسي، أو استهلاك بقية غير باقية من عقلي بعد انتهاء يوم دراسي مُرهق، في هذه الأوقات، أريد أن أطرب فقط!

المشكلة في الايربود، أنّه يؤثِّر علي في النواحي الاجتماعية، فبالله عليك من يسمع أوصاف خولة في قصيدة المرار بن ضرار حين يقول فيها:

أَمـــلَحُ الخَـــلقِ إِذا جَــرَّدتَهــا ... غَــيــرَ سِـمـطـيـنِ عَـلَيـهـا وَسُـؤُرْ
لَحَـسِـبـتَ الشَّمـسَ فـي جِـلبـابِهـا ... قَـد تَـبَـدَّت مِـن غَـمـامٍ مُـنـسَـفِـرْ

من يسمع ذلك، أيبقى له شيئًا من الرغبة في مخالطة الناس؟ لا، سأبقى أسكرُ عند المرّار!

هذا الأمر لا يتوقّف على رغبتي، فأصدقائي حين يروني أضع القطعة البيضاء على أذني، يتحرّجون من سؤالي أو الحديث معي، ولو فعل أحدهم ذلك مرّة، أراه يستثقل أن يُعيد الكرّة لو أراد سؤالًا جديدًأ.

الأمر الآخر هو العُزلة مع الأفكار، سماع شيء جديد كلّ مرة لا يسمح لك أن تعيش مع أفكارك، ستعيش في أفكار الشعراء، أو في حالة غيري أفكار البودكاست والمقاطع المفيدة، هذا قد يصنّف على أنّه استغلال للوقت الثمين الضائع في المواصلات، لكنّك بملاحقة أفكار غيرك الثمينة، لن تعرف نفسك حين تراودك فكرة ثمينة.

أنا لا أضرب بفوائد استغلال الوقت في المواصلات عرض الحائط، لكنِّي أنبّه على نمط حياة سريعة نرتضيه، بل نصفه بالمُنتج في أحيان كثيرة، ونذمّ الملل ولحظاته الباهتة، رغم أنّ الحياة الأبطأ أقلّ توترًا، وأقرب لانتاج الأفكار العظيمة.

لحظات الملل الطويلة تسمح للعقل أن يُعيد ترتيب أوراقه، يُعالج ما مرّ عليه في يومه، وربما يقيّم انسجام بعض الأفكار مع مبادئه وقيمه، وهذه فائدة عظيمة، لكنّ لا تجد من يتحدّث عنها، لأنّ الثقافة الغالبة حاليًا هو استغلال كل لحظة من لحظات اليوم في تقدّم الانتاجية.