لحظة احتيار؟

بقلم دكتورة هدى خوجة

باحثة في سلك الدكتوراة الارشاد التربوي النفسي

جامعة القدس المفتوحة

 مابين الاختيار والاحتيار ،أهي نقطة البداية أم نقطة النهاية !يبدو أنّ الزواج في زماننا لم يعد "اختياراً "بقدر ما أصبح " اختباراً" للقدرة على التحمل ، والغوص في أعماق بحر النصف الآخر ، تضيع الحقيقة بين رومانسية حالمة  وماديّة قاسية ،أم قرار الوالدية ورغبة فردية ،وهكذا بمحاولة كل فرد أن يقنع نفسه باتخاذه

" اختيار" دون وقوع في فخ "احتيار".

إن ّعملية الاختيار للزواج سلوك إنساني شائع يمارسه الانسان في حياته لأجل تأمين وتنظيم وجوده النفسي والاجتماعي ، ويمثل في عدة محاور رئيسة منها :الأسس والمجال وطريقة الاختيار، حيث تختلف باختلاف المجتمع والثقافة والافراد ، ويلعب دوراً رئيسياً في عملية تحقيق السعادة الزوجية، فالاختيار السليم مدخل إلى الألفة النفسية والعاطفية والبيولوجية والالتزام الاجتماعي .

ومن خلال الأدب النظري للاختيار الزواجي ، هنالك عدّة صور للاختيارالزّواجي  ومنها :

الاختيار الأسري (المرتب):

 يعتبر هذا النوع من النمط السائد في العصور القديمة والوسطى وحتى في العصر الحديث، كما أنه النمط المميز في البيئات غير الصناعية وفي المجتمعات النامية.

 وهذا يؤكد على أن الزواج ليس مجرد تعاقد بين فردين ،ولكن يعتبر في نفس الوقت تعاقد بين أسرتين بحيث يكون ليس فقط تأسيس لأسرة جديدة ،بل وسيلة لاستمرارية وثبات الأسرة القائمة ويمثل زواج الأقارب أحد الأنماط المعبرة على ذلك الاختيار.

الاختيار الذاتي( الحر):

 ظهر ذلك النوع من الاختيار الذي يقوم على الإرادة الحرة للطرفان في تلك العلاقة، كنتيجة للتحولات الثقافية والإجتماعية والإقتصادية وسيطرة الفردانية على المجتمعات الحديثة. ويقوم الزواج على الأسلوب الشخصي أو الذاتي للإختيار الزواجي، وعلى رغبة الفرد الشخصية في اختيار شريك معين، وهنا يكون تدخل الآباء والأقارب أقل تأثيرا في توجيه عملية الاختيار، فالقرار الأول والأخير يعود إلى الشخص المعني بالزواج سواء كان رجلا أم إمراة.

إن هناك أسلوب يدمج بين أسلوب الاختيار الذاتي وأسلوب الاختيار المرتب وهو ما يسميه بالاختيار المشترك أو التفاعلي، بحيث تكون محصلة الإختيار التفاعلي مزيج من قرار الإختيار الذاتي  لكلا الشريكين والنابع عن دوافع نفسية وموضوعية.

ويبقى السؤال الذي يحتل موقع الصدارة هنا أي طرق الاختيار أفضل الأسري أم الفردية أم المشترك؟

وتتعدد نظريات الاختيار الزواجي ومنها :

 أولا : النظريات الاجتماعيه الثقافية:

 ترتكز هذه النظريات( نظرية التجانس، نظرية التجاور المكاني، نظرية القيمة، المعايير) على الجوانب الاجتماعية والثقافية في ممارسة الاختيار الزواجي:

Ø _ نظرية التجانس:

 تقوم هذه النظرية على فكرة أن الشبيه يتزوج شبيهه، وأن التجانس هو الذي يفسر اختيار الناس بعضهم لبعض كشركاء في الزواج، لا الإختلاف ولا التضاد، والناس بصفة عامة يتزوجون من يقاربهم سنا ويماثلونهم سلالة ويشتركون معهم في العقيدة، كما يميلون أيضا  إلى الزواج ممن هم في مستواهم التعليمي ومستواهم الإقتصادي والإجتماعي.

وتذهب نظرية التجانس إلى أن الاختيار الزواجي يركز في المحل الأول على أساس من التشابه والتجانس في الخصائص الإجتماعية العامة، وأيضا في الخصائص أو السمات الجسمية.

Ø نظرية التقارب المكاني:

 وهي نظرية أخرى من منطلق ثقافي اجتماعي في تفسير الإختيار الزواجي، وتتعلق بالتقارب المكاني، فالفرد حين يختار زوجة فهو يلجأ أولا إلى محيطه الجغرافي الأقرب، فالأقرب ضمن البيئة التي يعيش فيها حيث تكون معارفه وطبائع وعادات وتقاليد مشابهة ومستوى اجتماعي واقتصادي أقرب ومن الأفراد الذين أتاحت له ظروف المكان أن يراها وتعرف عليها ويعرف عنها ما يحتاجه لأخذ القرار بالزواج.

  وبعباره أخرى يمكن القول إن نظرية التجاور أو التقارب المكاني في الاختيار للزواج تقوم على افتراض أن الناس يميلون إلى الزواج بهؤلاء الذين يعيشون بالقرب منهم، أي هؤلاء الذين يدرسون معهم في مدرسة أو معهد أو كلية، أو يعملون معهم في مكان واحد أو يلعبون معهم في نادي معين...الخ

Ø نظرية القيم:

 تفترض هذه النظرية أن القيم هي موجه أساسي للسلوك وهذا يوجه الفرد أيضا إلى اختياره للشريك لتقديره لهذه القيم واعتزازه بها. تعتمد هذه النظرية على أن الفرد يختار شريك حياته بناء على قيمه الشخصية ومنظومة القيم التي كونها في داخله ولنفسه فيختار الشريك الذي يتوافق مع هذه القيم ويتقبلها ويوفر ذلك له الأمان الانفعالي والتوافق الزواجي.

 إن هذه النظرية تتوافق مع النظريات الاجتماعية الثقافية السابقة وتتلاءم مع واقع البيئه العربيه بشكل أو بأخر.

Ø نظرية المعيار:

 حيث يرى كاتز وهيل أن الزواج معياري ،حيث يرى كلاهما أن التحديدات المعيارية في الثقافة تؤثر على السلوك ،ولذلك فالسلوك يتجه إلى أن يكون متوافقا مع التحديدات المعيارية ،وقد عرفت التحديدات المعيارية على أنها اعتقاد أو تحديد تقرير أو تحرم سلوكا معينا.

 وتقوم هذه النظرية على فرضية أن الزواج عمليه إرادية تتم في ضوء المعايير التي يضعها المجتمع للزواج من حيث (السن ،الجنس، الدين، المكانه، التعليم) وهذه المعايير يتعلمها كل فرد وهو صغير مما يجعله يقبل على الزواج وفي عقله فكرة عما يجب أن يكون عليه، وما هو مقبول في الإختيار، وتدفعه عند اتخاذ قرار الاختيار إلى تجاوب مع معايير المجتمع والالتزام بها. 

-    التقارب والتجانس في شخصي الشريكين وفي المستويات الاجتماعية والاقتصادية والاخلاقية والمادية والدينية.

-    الظروف التي سيعيشها الزوجان ومتطلبات مهنتهما، ومكان السكن ونمط الأقارب وهذه الظروف ترتبط أكثر باختيار الزوجة لزوجها أكثر مما ترتبط باختيار الزوج لزوجته.

-     التوافق في العمر وهو الفرق المناسب الذي يحقق التوافق بين الزوجين من الناحية الفسيولوجية والنفسية والاجتماعية.

ثانيا :النظريات النفسية للاختيار الزواجي:

Ø -نظرية تكامل الحاجات

 تركز هذه النظرية على وجود احتياجات تحدد عملية الاختيار الزواجي، وهذه الاحتياجات لا تركز على تشابه الشريك في الخصائص ولكنها تركز على مدى توفر خصائص في الشريك تشبع حاجات معينة لديه، فهناك حقيقتان مرتبطتان بفرضية تكامل الحاجات في الاختيار الزواجي وهي أن أنماط حاجات الأزواج الجدد تميل للاختلافات أكثر من التشابه وأن هناك تغييرات أو حاجات مؤثرة و ملحة سوف تؤدي إلى اختيارات معينة مثلا الشخص ذو شخصية المهينة يتوقع أن ينجذب نحو الشخصية المناسبة ويختارها كشريك.

Ø نظرية العوامل اللاشعورية

إن جوھر نظریة " لورنس كیوبى " أن المصدر الرئیسى للتعاسة الزوجیة بین الرجل وزوجته یكمن في المفارقات التي توجد بین مطالبھما الشعوریة واللاشعوریة، تلك المطالب المتصلة بعلاقة كل منھما بالآخر وبالزواج بوجه عام، وتظھر تلك المفارقات أول ما تظھر في مرحلة اختیار الشریك ثم تنمو بعد ذلك مع تقدم علاقتھما. ویظھر دور العوامل اللاشعوریة فيدفع الفرد للزواج بمن یشبھه تماما ً أو في اختیاره بمن لا یشبھه مطلقاً، ویتوقف ذلك على محتویات اللاشعور ویحدث ھذا كثیرا ً بین العصابیین عندما یختارون العصابیین مثلھم علما ً بأن عصاب الشریك لا یلغى أو یعالج عصاب الفرد بل إنه یضیف عصابا ً على عصاب ویعقد المشكلة، ومثل ھذه العوامل اللاشعوریة تؤثر على الشاب الذي یبحث لیس على زوجة فقط ولكن على أم في شخص الزوجة، فإذا ما أوقع حظه في فتاة غیر ناضجة أیضا ً، وتبحث لیس عن زوج شریك ولكن عن زوج أب، ویبحث كل واحد منھما عن شيء یفقده ویأمل أن یجده عند الطرف الآخر. فالاختیار السلیم حسب ھذه النظریة لیس أن یختار الفرد شریكا ً یناسبه في المیول والاتجاھات والعادات والقیم ویتوافق معه، وإنما علیه أن یختار شریك حیاته بدوافعه الشعوریة واللاشعوریة لأنه ھو السبیل الأنجح الذي یناسبه..

Ø نظرية الصورة الوالدية

 يرى ستراوس أحد أنصار نظرية الفرويدية أن صورة الوالد أو الوالدة تلعب دورا جوهريا في عملية الاختيار الزواجي، فالفرد في طفولته المبكرة يكون علاقة عاطفية قوية مع أحد أو أكثر من الأشخاص الذين يكونون دائرته الأسرية، وغالبا ما تكون موجهة نحو الأب (التنميط الجنسي)، وأحيانا ما ينعكس هذا التثبيت فتكون استجابة الولد العاطفية في أغلبها موجهة نحو الأب، وتكون استجابة البنت العاطفية موجهة إلى الأم، كما أنه قد يمتد رد الفعل هذا إلى أكثر من شخص في محيط الأسرة بحيث لا يرتكز في الأم والأب فقط فقد يمتد إلى الأخوة، وعندما يبلغ الذكر والأنثى سن الشباب فإنهما يميلان إلى إعادة تلك العلاقة واحيائها مع من يحبون، ويرغبون في الزواج منهم، أما إذا كانت تلك العلاقة غير مرضية وغير مشبعة فإن كلا الجنسين يتجهان إلى البحث عن شريك يشبعان في علاقتهما معه، ما لم يستطيعان إشباعه أثناء طفولتهما. (بن السايح،2018)

Ø نظرية الشريك المثالي

حسب هذه النظرية فان معظم الأفراد يكون لديهم رؤية مستقبلية يودون أن يكون عليها شريك حياتهم المنتظر يعبر عنها اصطلاحاً بالشريك المثالي أو القرين المثالي، وهي الصورة التي تكون لدى الفرد في سن الزواج عن نمط أو طراز الشخص الذي يود الزواج منه، وعادة ما تنطوي تلك الصورة المثالية على وصف شامل ودقيق للشريك المنتظر من حيث الشكل والصفات العقلية والمزاجية والأخلاقية والإجتماعية المفضلة أو على وجه العموم خصائص من يريدون الزواج بهم، ويتبلور مفهوم القرين المثالي فيما بعد من خلال التراكمات الثقافية التي تفرضها مؤسسات المجتمع المختلفة كالمدرسة والمؤسسة الدينية ووسائل الإعلام. (بن السايح،2018).

Ø نظرية الجاذبية الجسمية

تعتبر هذه النظرية من طرق الاختيار الفردي، ولها دور كبير في عملية الاختيار الزواجي، خصوصا لدى الرجال، حيث يفضل الرجال اختيار المرأة الجميلة مع اختلاف معايير الجمال من شخص لآخر.

ثالثا : الاختيار الزواجي وفقا للمجتمع الشبكي (net worked community)

ظهرت شبكة الإنترنت والتي تعد من أحدث منجزات الثورة التكنولوجية في العالم. وهؤلاء الذين يستخدمون الشبكة يسهمون في ظهور مجتمعا كونيا يقوم على الإتصال، وهكذا أصبحت الشبكة العنكبوتية بمثابة مجتمعا متكاملا له عاداته وتقاليده بل لغته الخاصة، فضلا عن التحرر من القيود الأسرية، ومزيد من الحرية في العلاقات خارج نطاق الأسرة مما شكل وعي واتجاهات جديدة لدى الشباب نحو الاختيار للزواج.

لقد أصبح البحث عن شريك الحياة هدفا من أهداف التكنولوجيا التي يستخدمها الشباب، وتعد تلك الظاهرة من تبعات العولمة، فالرباط الأسري الذي كان ينظم عملية الاختيار الزوجي ويضعها في مسارها الصحيح ومكانها الاجتماعي المناسب فقد الكثير من تأثيراته في الوقت الحالي، فالعامل الجغرافي لم يعد عائقا، فالعالم في ظل العولمة أصبح بمثابة قرى كبيرة متجاورة، وقد ترتب على ذلك اتساع مجال التعارف وفرص لقاء الشريك.

والخطير بأن بعض الشباب والشابات يظنون بإصلاح سريعٍ بعد الزّواج، مع الخلط بين الاعجاب العابر والحب الحقيقي والقرارات السريعة غير المدروسة ، فيجدون قرارهم كوجبة " فاست فوود ".

ولكن إذا لم تتخذ بعين الاعتبار باختياٍر رشيد فستتحول إلى مواصفات هاتف محمول ذاكرة وبطارية وسرعة اتصال !

وفي النهاية الزواج الناجح هو الذي يجمع بين اختيار واعٍ وشراكة حقيقة متكاملة ، ليغدو كل يوم فرصة لبناء علاقة حقيقة، لا مجرد صورة مثالية على السوشيال ميديا.

الزواج ليس ورقة يانصيب ولا تجربة كيميائية إنه تكيّف وتوازن بين عقل وقلب ومن يسيء الاختيار قد يعيش زمنه يسأل : اختيار ...أم احتيار ؟