كنت أرى العيد مناسبة للفرح واللقاء الأسري والبساطة التي تحمل في طياتها سعادة صادقة، لكنني في السنوات الأخيرة بدأت أشعر وكأن العيد أصبح ساحة لعرض الأزياء والمظاهر، من الملابس الفاخرة إلى صور الأضاحي والمناسبات المصطنعة، وتساءلت كثيرًا: هل تغيرت مفاهيمنا، أم أن ضغوط المجتمع هي التي غيرتنا؟ وأصبحت أفتقد تلك الفرحة الخالصة التي لا تحتاج إلى تكلف، تلك التي تنبع من القلب لا من الكاميرا. برأيكم كيف يمكننا أن نُعيد للعيد روحه الحقيقية، ونجعل أبناءنا يعيشون معناه لا مظهره؟
العيد فرحة، أم استعراض ملابس وأضاحي؟
في الحقيقة منذ سن النضج وأنا أتساءل عن سبب ذهاب روح الأعياد الحقيقية بلا عودة، فتمر أيام الأعياد كأي أيام عادية، مما جعلني أتساءل أيضاً هل عندما كنا صغار كان أهلنا يتظاهرون بالسعادة لنسعد نحن، أم أنهم كأشخاص ناضجين كانوا يسعدون بالأعياد فعلاً على خلافنا الآن..
لكن في رأيي أنه يمكن استعادة الاحساس بأيام الأعياد عن طريق طقوس العيد والتمهل فيها لتذوق معناها وأن نعيش لحظاتها بتمعن حاضر.
فيمكن أن نرتب لأيام الأعياد خطة مسبقة نجهز فيها ماذا سنفعل من الصباح حتى المساء، أين سنصلي، من سنزور، ماذا سنأكل، أين سنذهب، وهكذا نشارك أطفالنا هذه الأحداث كل لحظة، ومن الجدير بالذكر أن السعادة وذكرياتها تصنع صنعاً، ولا تأتينا بمفردها دون أن نساهم فيها.
أم أنهم كأشخاص ناضجين كانوا يسعدون بالأعياد فعلاً على خلافنا الآن..
فعلاً أتذكر كيف كان أبي وأمي يُبدعان في خلق أجواء العيد، كأنهم يصنعون الفرح بخيوط من تفاصيل صغيرة، في شم النسيم كنا نلون البيض بألوان زاهية ونخرج للتنزه وكأنها رحلة استكشافية، وفي عيد الأضحى كان البيت يمتلئ برائحة الطهي والضحك والزيارات المفاجئة، لم يكونوا يتركون شيئاً للصدفة، كانوا يصنعون السعادة بحب، والآن أعتقد أن دورنا جاء لنرث هذه الحرفة الجميلة وننقلها لمن بعدنا.
في الحقيقة العيد اليوم ليس فرحة على الإطلاق.
قبل العيد بشهر الأب يغرق في التفكير بين ملابس جديدة للأبناء واحذية وحقائب وحلويات وأكل وميزانية ترفيه و.... ويشعر انه بحاجة لقرض مالي، داخل أي محل هو واقف في الزاوية يخشى أن يتجاوز ثمن رغبة ابنائه المبلغ المالي الموجود في جيبه.
الأم بالداخل بدلاً من تهيئة الأبناء للعيد وتعزيز الروابط الأسرية هي منهكة في تنظيف الحوائط والسجاد والأبواب لا ينقص سوى أن تغسل الهواء داخل المنزل فقط لأجل الضيوف والمظهر العام.
الأبناء أنفقوا وقت للإجابة على سؤال كيف يكون مظهرهم أنيق في العيد لكن لم يفكر أحدهم كيف يكون سعيد في العيد.
الايادي أصبحت تمتد لالتقاط الصور أكثر من المصافحة والعناق، لقد فقدنا الحقيقة في زهوة كل مناسبة لصالح التداعي والتظاهر والصورة السطحية فقط
بصراحة أرى أن هذه الأمور مألوفة وموجودة منذ زمن، وكانت تُنجز دائماً بحب وحماس، فقد كان أبي أيضاً يخطط للعيد بحذر، وأمي تنظف المنزل وكأننا نستعد لاستقبال شخصية مهمة، لكن رغم التعب كان في الأمر بهجة غريبة، وكأن كل هذا الجهد هو جزء من طقوس العيد الجميلة، يتم بروح مرحة، أما اليوم فأعتقد أن المشكلة الحقيقية تكمن في التكنولوجيا واستخدامها المبالغ فيه، فالكل مشغول بشاشته أكثر من انشغاله بمن حوله، ففقدنا تلك اللحظات الدافئة التي كانت تصنع العيد بحق.
في الحقيقة، لا يمكن إنكار أن مظاهر العيد قد تغيرت، وأن وسائل التواصل الاجتماعي أضافت طبقات من التوقعات والاستعراض لم تكن موجودة بهذا الشكل من قبل. لكن في المقابل، لا تزال الفرحة الصادقة موجودة، وإن بدت أكثر خفوتًا وسط الضجيج.
ربما لا يتعلق الأمر بتغيّر المفاهيم بقدر ما هو اتساع في أنماط التعبير. فهناك من يجد في البساطة معنى العيد، وهناك من يعبّر عن الفرح بطريقته، ولو بالمشاركة بصور وأزياء.
لكن التحدي الحقيقي هو كيف نُعيد التوازن: أن نُظهر الجمال دون أن ننسى الجوهر، وأن نُسعد أبناءنا دون أن نربط السعادة بالمظاهر وحدها.
أعتقد أن الأمر يبدأ بتوجيه الأطفال بقيم العطاء والتواصل الأسري البعيد عن التباهي بالمظاهر. يمكن تعزيز ذلك من خلال إشراكهم في تحضير التجهيزات البسيطة للعيد، كإعداد الأكل معًا أو زيارة المحتاجين، مما يجعلهم يشعرون بمعنى العيد الحقيقي. كما أن تقليل الاعتماد على الأجهزة ووسائل التواصل في أيام العيد، والتركيز على اللقاءات الحية والأنشطة المشتركة، يساعد في غرس معاني الفرح الصادق والروحانية بعيدًا عن مظاهر الاستعراض.
ليتنا نستطيع ذلك حقًا، لكن الصراحة في أيام العيد يكون الأمر من سابع المستحيلات، فالجميع يمسك بهواتفه ويغرق في التواصل والمشاركة، وكأن العيد أصبح موسمًا للاشتراك في الإنترنت وجمع الإعجابات، حتى لو حاولنا تقليل الاعتماد على الأجهزة نجدها تلاحقنا في كل مكان، من الصباح حتى المساء، ومع ذلك لا يمنع أن نحاول تخصيص لحظات بسيطة للقاءات الحية والضحك الصادق، فالفرح الحقيقي لا يأتي من خلف شاشة.
اعتقد أن الحال لطالما كان هكذا، الفكرة أن السوشيال ميديا قد ساهمت في زيادة التأثير، وزيادة الرغبة لدى بعض الناس في المفاخرة، هناك بعض الناس يقومون بتصوير كل شيء في حياتهم بداية من أكواب القهوة والشاي والملابس والأطفال والأماكن التي يرتادونها، هؤلاء يشعرون أن من واجبهم أن يشاركوا المتابعين كيف كان عيدهم، للأسف هذه شريحة ليست صغيرة.
يمكننا أن نعيد للعيد روحه الحقيقية بالحرص على التراحم والمودة وصلة الرحم بين الناس، وخاصة الأهل والأقارب، أن نقدر الضغوط الاقتصادية التي نتعرض لها جميعاً فلا نحاول أن نزيد الأعباء على بعضنا، مثلا وليمة العيد يمكن لأكثر من أسرة المشاركة بها، يعني نحضر طعامنا ونتشاركه سوياً، فالفكرة ليست في الطعام إنما في المشاركة، والاحتفال سوياً، والاكتفاء بأبسط الأمور المهم أننا معا، اسأل الله أن يديم علينا جميعاً المودة والمحبة والفرحة.
هذا الأمر مرتبط بتفكير وسلوك الشخص نفسه، فهناك من يكون كل همه هو توثيق كل لحظة بصورة أو ڤيديو وعرضها على منصات التواصل الاجتماعي وقضاء الوقت منشغلًا برغبته في أن يعرض ما يملك أو ما يحدث معه بدلًا من عيش اللحظة أو الحدث نفسه، بينما في المقابل هناك أشخاص لا يهمهم كل ذلك، فهم يريدون عيش حدث العيد بكل شعائره وطقوسه وعاداته وتقاليده مع نفسه وعائلته وأصدقائه، وربما يلتقط صورة أو ڤيديو لكن للاحتفاظ بها للذكرى على هاتفه، وقد لا يشارك أي شيء على السوشال ميديا منها إلا ربما تهنئة عادية بالعيد.
بالنهاية، أمثال الأول موجودون، وأمثال الثاني موجودون أيضًا.
أعتقد انه لا مشكلة اطلاقا من الفرح بالملابس والأضاحي، فهذه أجزاء أساسية من العيد لدى الكثيرين واستعراضهم في أغلب الأحيان يكون تعبير عن فرحتهم ومشاركتها مع الغير ليس أكثر، لكن ما لا أحبه هو أن يتحول الأمر لمنافسة، بحيث يشعر شخص أنه لا يستطيع أن يستمتع بالعيد طالما لم يشتري ملابس مثل فلان أو لم يذبح أضحية مثل فلان، وأعتقد أن المحرك الرئيسي لروح العيد هي الروابط العائلية، فإذا لم تكن قوية وراسخة فيجب أن يتم العمل على اصلاحها
لكن ما لا أحبه هو أن يتحول الأمر لمنافسة، بحيث يشعر شخص أنه لا يستطيع أن يستمتع بالعيد طالما لم يشتري ملابس مثل فلان
للأسف هذا الأمر منتشر بشكل كبير في الريف، وقد رأيته بنفسي، إذ يتحول العيد عند بعض الناس إلى ساحة للتفاخر، وكأن الفرح لا يكتمل إلا بالملابس الفاخرة أو الأضحية الأكبر، مع أن جوهر العيد لا يكمن في ذلك أبداً، بل في المودة وصلة الرحم ولمة الأهل، فهي التي تصنع روح العيد الحقيقية، وأي خلل في هذه الروابط ينبغي العمل على إصلاحه لأنها أساس الفرح.
التعليقات