في ظل حياة هي محورها العمل وجمع المال، حيث نقضي ساعاتٍ طويلة في هذا الأمر حتى تُشكّل يومنا وبالتالي حياتنا، أسأل: تخيّل معي، - إذا كان المال غير موجود وليس هدفاً في الحياة، كيف ستقضي يومك؟
إذا كان المال غير موجود وليس هدفاً في الحياة، كيف ستقضي يومك؟
لابد أن نفكك العبارة ضياء. قد يكون المال غير موجوداً لأننا لا نطلبه ولا نسعى خلفه و بالتالي فيكون لي حينذاك اهتمامات أخرى. إذن فهو ليس هدفي في الحياة ولكن لي أهداف أخرى. الأمر الآخر أن أكون أتحرق شوقا إلى جمع المال وأكدح ولكن لسبب أو لآخر لا أحصل منه الكثير أو لا يوجد وهذا له إجابة أخرى. في الأفتراض الأول ولو كنت من أهله فإني لن أشقى بعدم وجود المال لأنه لا يشغلني كثيراً؛ فربما قضيت يومي في عملي الذي أحبه ( حتى و إن كان لا يجلب لي المال) أو ربما قضيته في قراءة أشياء أشتهيها إلخ...أما إن كانت الأخرى، فإني أواصل الكدح و التفكير في أسباب جمع المال وأظن أن هذا من أسباب الشقاء أن يطلب الإنسان شيئا ويسعى خلفه ولا يجده.
أو ربما قضيته في قراءة أشياء أشتهيها إلخ
هذا النوع من الأجوبة للصراحة يحيّرني، هل فعلاً نحن لو كنّا بلا حاجة حقيقية لصناعة المال من أجل الطعام والشراب وتأمين أساسيات الحياة كنّا سنعدم أي سبب حقيقي يجعلنا نعيش من أجله؟ في تعليق حضرتك مثلاً ذكرت لي أمر القراءة كنشاط ربما ستقوم به لإنّك لم تعرف ما الذي يمكن أن يكون هدفاً ذو معنى بعالم بلا سعي خلف المال.
لا، الحياة لا تطلب مسوغاً لكي نعيشها أطلاقاً. فنحن نعيش الحياة لأنها هي هدف في نفسها. حتى الأم حينما تقول لأولادها في ساعة مرضها الشديد: أريد أن أنهض من أجلكم....يارب أطفالي الصغار يحتاجونني ...اشفن من اجلهم....
لا تصدقها . كل هذا تعلات يا صديقي؛ وإنما هي تطلب الحياة للحياة ولكن لابد لنا أن نجد هدفاً أو مسوغاً نعيش من أجله. فالحياة ذاتها معبودة في ذاتها. بدليل أنها حين يموت لها طفل أو ابنة فإنها لا تدفن نفسها خلفهم ولكن تعيش ....
لا، الحياة لا تطلب مسوغاً لكي نعيشها أطلاقاً
بدأنا بسؤال والآن نصل برأيي إلى عدمية حقيقية، لا أومن بهذا الكلام أبداً، أن نعيش بلا جدوى من حياتنا، بلا هدف واضح نستند عليه، بلا قضية تجعلنا نعيش فعلاً من أجلها، لا نتحجج بها لأجل أن نحيا. الحياة التي تطرحها باعتقادي مليئة بالضياع وانعدام الجدوى بهذه الطريقة.
إذن كيف تفسر ضياء حياة كثير ممن يعتقدون بعبثية الحياة؟ لو كان كلامك واقع وحق لانتحروا إذن وأزهقوا أرواحهم! دعنا نتكلم بالمنطق. هنالك الكثير من العدميين في الحياة يعيشون الحياة للحياة. يحيون لانهم هكذا لابد أن يحيون. وقد يحيون حياة طيبة وقد يشاركون في أعمال الخير. بماذا تفسر ذلك وهو الواقع و المعاش؟
أرى أنّ هناك فرقاً كبيراً بين الحياة والعيش، بين يعيش وبين من يحيى، هذه الطريقة لا يمكن أبداً أن تناسبني في الحياة، أعتقد أنّ من واجبنا أن نجيب على سؤالٍ كسؤالي ولو لمرة واحدة في عمرنا لكي نتأكّد بانّ نملك أسباباً احتياطية للعيش في معنى حتى ولو تغيّرت الحياة برمّتها، ما يعني أننا نملك أدوات استنادٍ داخلية في معنى وجودنا ولا نعتمد على الخارجي المادي في انتخاب هذا الأمر الخطير.
ضياء أنا هنا قد أكون معتقد في وجهة نظرك ولكني أرى رأي الآخرين. لأن تلك الفكرة مثيرة حقاً وقد فكرت فيها من قبل. أرجوك جاوبني جواب واقعي لا تهويمات في الهواء فهنالك من يسأل: لماذا هناك أناس يحيون وقد يحيون حياة طيبة وهم يعتقدون بعبثية الحياة؟ ما الذي يفرق ن تحيا بمعنى أو تحيا يدون معنى؟ في الأخير كلنا نحيا و قد تكون جودة حياة الطرف الأخير أكثر جودة من غيرهم؟!! هناك من يتساءل ويريد أن يستريح. ما الفارق العملي الذي يدفع الطرف الأخير أن يبحث عن معنى أو يتحرق لوجود معنى؟
اذا كان المال غير موجود سنستعيض عنه بوسيلة اخرى للتبادل التجاري والمنفعة بين الناس.
والمال ليس هدفا في الحياة في حد ذاته ولكنه الوسيلة الاكثر مصادقة بين الافراد لتبادل المصالح والمنفعة وغيره.
وكيف سوف يتم قضاء اليوم فهذا يعتمد على كل شخص فيما يتقن من مهارات لكسب الرزق.
اذا كان المال غير موجود سنستعيض عنه بوسيلة اخرى للتبادل التجاري والمنفعة بين الناس.
طرحي لفرضية عدم وجود المال هو يُعبّر عن عدم الحاجة لتجارة وتقايض وما إلى ذلك من الظروف التي تشكّل عالمنا تجارياً وإنسانياً، يعني بمختصر بسيط: جنّة على الأرض. ما الذي يمكن أن تفعله حضرتك في مكان كهذا؟ كيف ستقضي يومك في بيئة مشابهة؟
في عام 1984، عرضت السينمات المصرية فيلماً من بطولة الفنان يحيى الفخراني والفنان القدير فريد شوقي، والفنان القدير توفيق الدقن، والفنانة ليلى علوي، بعنوان "خرج ولم يعد" .
ودارت أحداث الفيلم حول الشاب "عطية" الذي يكافح في حياة المدينة ويعمل موظفاً بأرشيف إحدى الوزارات، ويسكن بأحد المنازل الآيلة للسقوط في إحدى الحواري الفقيرة بالقاهرة، وبسبب أزمة الإسكان يؤجل زواجه من خطيبته لمدة سبع سنوات، حتى هددته والدة خطيبته بفسخ الخطوبة وألحت على خطيبته أن تقاطعه ولا ترد على مكالماته الهاتفيه حتى رضخت لها، وحين ذهب إلى منزلها قابلته والدتها مقابلة جافة ورفضت استضافته وأخبرته بأن خطيبته ليست هنا.
فقرر "عطيه" الذهاب إلى الريف ليبيع قطعة الأرض الوحيدة التي يمتلكها كحل لأزمة الشقة، وهناك يتعرف على "كمال بك" (فريد شوقي) وابنته خيرية (ليلى علوي) ويستضيفونه استضافة رائعة ويذبحون له الطيور والأغنام ويعدون له مائدة ملكية بما كل ما لذ وطاب من الطعام والشراب والحلويات والفاكهة والحليب وكل خيرات الطبيعة، ويشاهد عطية كل هذا النعيم ويظن أن الأزمة قد انفرجت وأنه سيحصل من ذلك الرجل الكريم على الأموال التي سيطلبها مقابل بيع قطعة الأرض له، ولكن تأتي المفاجأة أن "كمال بك" لا يمتلك أية أموال تكفي لشراء قطعة الأرض من "عطية"، فيقرر مماطلة عطية لعدة أيام إضافية، ويقنعه بالبقاء وتمديد أجازته لعدة أيام إضافية حتى يدبر المبلغ له، وبالفعل يمكث عطيه تحت تأثير وإغراء جمال الطبيعة وهدوئها وهذا النعيم الذي يعيش فيه، وهذه البساطة المريحة للنفس والأعصاب، إلى أن تأتي لحظة الاختيار الصعب بين العودة للمدينة وزحمتها ومصاعبها المادية والنفسية وأيضاً فرصة الترقي ونيل المنصب الوظيفي الراقي، وبين البقاء في الريف وجماله وراحته ونعيمه مقابل العمل كمشرف على أراضي ومزارع "كمال بك" مقابل راتب شهري يفوق ما كان سيحصل عليه في المدينة، وسكن في هذا النعيم طوال العمر.
وفي النهاية وبعد صراع نفسي قوي، يحسم "عطية" الصراع ويبقى في الريف الذي وجد نفسه فيه، ويتعلق بخيرية الفتاة الريفية البسيطة المرحة الجميلة ويقع بحبها ويتزوجها.
ما دار في هذا الفيلم يعد طرحاً فلسفياً هاماً لقيمة المال وتأثيره في حياة الإنسان.
فـ"عطيه" الشاب المتعلم المكافح الذي يعيش في المدينة المتطورة ويعمل بإحدى الوزارات، لم يمتلك المال الكافي لإتمام زيجته، ويعيش حياة كئيبة في منزل آيل للسقوط ينزل منه كل يوم ولا يدري هل سيعود ويجده ليبيت فيه أم سيجده تراباً..
و"كمال بك" الرجل الكريم الذي يعيش في فيلا وسط ممتلكاته من الحدائق والمزارع والحقول الشاسعة، ويمتلك سيارة فاخرة ولديه زوجة مخلصة وبنات جميلات، يعيش معهم في نعيم ويتناولون يومياً كل ما لذ وطاب من خير الريف، لا يمتلك أيضاً المال الكافي لشراء فداني أرض رغم سعرهما الزهيد وقتها.. بل أنه قد قرر بيع محصول عامين قادمين ليحصل على المال الذي كان سيعطيه ل"عطية" مقابل الأرض.
فالاثنين لا يمتلكان المال بنفس النسبة تقريباً، ولكن أحدهما يعيش في مرارة وكدر، ويحمل هم المال كل يوم صباحاً ومساءاً وكيف سيدبره، والآخر لا يلقي له بالاً ، ولا يأبه لعدم وجود المال، ويعيش سعيداً هانئاً في حياة منعمة رغم بساطتها.
مما يطرح على المشاهد في نهاية الفيلم سؤالاً فلسفياً هاماً:
هل المال هو عصب الحياة فعلاً ومحور الوجود وأهم ما يجب أن يسعى إليه الفرد؟
هل المال هو عصب الحياة فعلاً ومحور الوجود وأهم ما يجب أن يسعى إليه الفرد؟
استعراض هذا الفيلم برأيي مثير للالهام ومنعش لهذا الموضوع فعلاً، يبدو من الإجابات أنّ المال ليس فقط عصباً للحياة، بل القضية الوحيدة ربما التي يبذل لاجلها الإنسان معظم أيام حياته مما يجعلها قضية تشكّل معناه في الحياة، وجوده الأكبر. هذا خطير جداً على مستوى النفس، لإنّه يجعلنا كائنات معنى وجودها في استهلاكها، فإذا ما توقّف الاستهلاك صار إيجاد سبب للوجود أمر صعب جداً. لهذا ربما يغدو سؤالي: إذا كان المال غير موجود وليس هدفاً في الحياة، كيف ستقضي يومك؟ سؤالاً صعباً جداً ويصعب على الإنسان العادي المنغمس في آتون العمل اليومي الإجابة عنه بسهولة.
لا أستطيع الإجابة على هذا السؤال على الإطلاق يا صديقي. وذلك لأنه يتنافى في الأساس مع القرارات التي اتخذتها خلال الفترة الماضية. تعتمد هذه القرارات على فكرة تحسين الدخل، حيث أنني قد تناولت موضوع المال كهدف أساسي، نظرًا لكونه العصب الرئيسي لحياة الإنسان المعاصر. جميع المعايير الأخلاقيّة تخبرنا بأن المال ليس كل شيء، وأنه ليس عصب الحياة، وأن قلّته لا تعني انخفاض جودتها، في حين أن كل الأنظمة التي نعتبر جزءًا منها تعتمد على المال. هذا الأمر هو ما لفت انتباهي إلى أن سعينا خلف المال ليس دليلًا على الطمع. وإنما هي تقنية نحمي بها أنفسنا بالعنصر الذي يعتمد عليه كل شيء حولنا تقريبًا.
هذا الأمر هو ما لفت انتباهي إلى أن سعينا خلف المال ليس دليلًا على الطمع. وإنما هي تقنية نحمي بها أنفسنا بالعنصر الذي يعتمد عليه كل شيء حولنا تقريبًا.
أنا لم أذكر موضوعة الطمع، إنّ هذا أمراً طبيعياً يجب أن نحصّله في حياةٍ كحياتنا، لكن ما أحب أن ألفت نظر حضرتك إليه أو أن أحذّرك من الوقوع به هو أمر خطير جداً على المستوى الوجودي للإنسان، لإن سؤال كسؤالي مثلاً برأيي يكشف فراغنا أمامنا ماثلاً. لماذا؟ لإنّنا كبشر يجب أن نجد هدفاً أسمى من ذلك الأمر لنستند عليه في بناء حيواتنا، لا يجب أن يكون بناء حياتنا مستند على هدف تحصيل الأموال وتحسين مستوى المعيشة وتحقيق النجاحات المهنيّة، هذه مغامرة كبيرة. لماذا؟
لإنّهُ يقول لنا التالي: في بيئة المال فيها أمر غير ضروري والمعيشة بها مؤمّنة بشكل ممتاز والنجاحات المهنيّة لا معنى لها، في مثل هذه البيئات تفقدون هويّتكم والمعنى الحقيقي لحيواتكم.
المال هو أحد الأهداف الأساسية التي نسعى إلى تحقيقها إذ أنها تساعدنا في تحقيق أهدافنا الأخرى. لربما أجدادنا القدامى يستطيعون الإجابة على هذا السؤال حيث لم يكن هناك وجود للمال فكانت تقتصر المعاملات التجارية بين الأفراد على المقايضة.
ولكن الإضافة الجميلة التي نملكها هي التكنولوجيا والقيمة التي أضفتها لحياتنا. وبالتالي فهناك 2 سنيناريو لما تطرحون من تصور:
- أن يكون المال جزء من الماضي ويختفي فجأة من حياتنا: هنا لن يكون يسيرا أن نتقبل الاختلاف إذ أننا ولنكن واقعيين مجتمعات مادية بامتياز تسعى إلى التملك والتسابق نحو الاستهلاك. هذا الأمر لا ينجح خاصة مع الأنظمة الرأسمالية التي تقوم أساستها على الملكية التي تتحدد من خلال المال. لربما الأنظمة الاشتراكية تجدها أسها أن تتقبل هذا النظام الجديد إذ أنها لا تعط الحق الفردي في التملك وبالتالي تؤمن بالملكية الجماعية.
- أن نكون لم نتعرف على المال أساسا كجدودنا: وهنا لن نفقد لشيء . بالعكس ستتحقق الكثير من الفوائد والتي يدخل ضمنها اضمحلال الأنانية والمصالح الشخصية وانحسار الفساد القائم على السعي نحو الملكية.
أنا أطرح فرضيّة مُتخيّلة ويهمني فعلاً أن تفترضي نفسك فيها، ماذا لو كنت في عالم موفّر به كل شيء، لا حاجة لكِ به إلى المال، بالمختصر السريع: جنّة على الأرض وفي الحياة التي تعيشينها. كيف ستقضي يومك لحظتها؟ ما الذي فعلاً ستلاحقينه في الحياة؟
لاأعلم .. ربما سأحاول مساعدة الأخرين والإستمتاع بالحياة
يُعجبني هذا الجواب، سأحاول مساعدة الأخرين، فعلاً سنقوم بذلك، لإننا في الحياة الفعلية الآن هذا بالضبط ما نقوم به ولكن معكوس على ذواتنا، إننا نساعد أنفسنا، هذه الحياة تفرض صراعات عالية المستوى ونحن نساعد أنفسنا ضمن هذه الظروف، ولذلك بمجرّد الانتقال لبيئات أفضل سنساعد الآخرين، هذا أول ما سيخطر على بالنا، لإننّا لا نعرف ربما إلى هذه اللحظة الإجابة عن هذا السؤال المرعب برأيي: كيف تكون الحياة من دون السعي إلى اكتفاءٍ من حاجة؟
التعليقات