صدح هذا الصراع في الآونة الأخيرة بشكل غير مسبوق، وبصراع محتدم بين وجهات النظر المختلفة.
ما سبب الهجوم غير المبرّر على الموسيقى المعاصرة؟ وما هو موقفكم منها؟
لأنها علي أصبحت سطحية وبلا معنى ولا بإبداع ايضًا، تشعر عند سمعها بأنّ هنالك ضوضاء تحيط بك، الغرض من استماع الموسيقى هو الشعور بالراحة، ولكن هذا لا تفعله الموسيقى العصرية، لو عدنا للموسيقى القديمة وتحديدًا الكلاسيكية، كان المستمع وقت طويل في سماع مثل هذه الأغاني ويشعر بالاستمتاع نحوها، تخفف من الألم من خلال الاندماج معها، تشعر بأن الاجهاد الذي تعاني منه من الماضي علاوة على ذلك المستمعين أذواق
ولماذا نتعامل مع فكرة الطول والقصر على أنها سمة يمكننا القياس على أساسها يا صديقي؟ أختلف معكَ في هذا التناول. لأننا لا نستطيع تناول دوانب أو سمات بعينها ونستند عليها، في حين انها لا تتعدى كونها سمات طبيعية مناسبة للعصر الخاص بجمهور العمل الفني. على سبيل المثال، لا يمكنني أن أطالب فتى في الرابعة عشر من عمره تمثّل الأقراص الصلبة اللامعة بالنسبة إليه تاريخًا لم يعشه بأن يستمع إلى أغنية لمدّة ساعة ونصف. إن عالمه سريع. وإخراجه من هذا العالم إلى عالم أكثر بطئًا ليس فقط سلوك غير مناسب له، وإنما سيضرّه أيضًا. أمّا عن فكرة اختلاف الذائقة، فهذا أمر لا يمكننا أن نخوض فيها، لأنني ببساطة أجد أنه غير معياري، لا يمكنني أن أحكم على الأشياء من خلاله، أو من خلال ذوقي، لأن ذلك المعيار ليس له أي علاقة بالجودة، وإنما بالمتلقّي.
بنظري، لا يمكن أن نقول أن الأغاني المعاصرة بكاملها هي فن منحط، ولا يمكن مقارنتها بأعمال قبل ثلاثين و أربعين سنة أو أكثر، فالتقييم يعتمد على أذن السامع وما تعود عليه، فالجيل الكبير والمسن بالطبع سيستغرب الموسيقى والإيقاعات الجديدة، كما أن الجيل الجديد لا يرتاح أبدا لسماع أغلب الأعمال القديمة جدا. فالانتقاد لا يجب أن يكون من جانب الموسيقى، بل من جانب الأصوات والفيديوكليبات وكلمات الأغاني، فيوجد الكثير من الأصوات الأقل من عادية في الوسط الفني الحالي خاصة عندما نقارن بخامات أصوات فنانين زمان. فدخول الفن في هذا الزمن أصبح متاحا للجميع.
من جهة أخرى، نسبة الأغاني ذات الكلمات والمعنى العميق والجميل أصبحت قليلة، فكيف لمن اعتاد على أغاني أم كلثوم وفيروز، بكل ما فيها من معاني وصياغة رائعة، أن لا يستغرب من أغاني اليوم؟ فحتى الأغاني الجديدة لمغنيين مثل عمر دياب وإليسا وغيرهم، ليسن بجودة أغانيهم القديمة، خاصة على صعيد الكلمات. وبالطبع لا داعي لأن نتطرق إلى الفيديوكليبات المعاصرة التي لا تمت إلى الفن بصلة بغالبها.
فلا يجب أن ننكر وجود مغنين موجودين على الساحة حاليا أو من الجيل الجديد لا يزالون يحرصون على تقديم فن راقي، ولا يمكن أن نقارن الذوق الموسيقي اليوم بذلك في الماضي، ولكن هؤلاء يشكلون أقلية.
هذا هو ما أردتُ الإشارة إليه لصديقنا في التعليق السابق، حيث أنني أجد أن فكرة حبّي للون فنّي ورفضي للآخر لا تعتمد مطلقًا على جودة العمل الفني، وإنما تعتمد على تجربتي أنا مع الفن طوال حياتي، وتقبّلي لألوان وعدم تواصلي مع الأخرى. وبالتالي فإن الانتقاد الموجّه للجديد لمجرّد كونه جديدًا، أو على أساس رفض الذوق العام، كلّها أمور لا يمكننا أن نطبّقها في عالم معاصر. لأننا بهذه الطريقة نضع كل الأحجار الممكنة في طريق التجديد. وهذا أمر غير محبّذ على الإطلاق، على الأقل فيما يخص تواصل الأجيال مع بعضها البعض.
اعتقد أن سبب هذا الهجوم هو إنها تحمل بعض أو أغلبية الألفاظ السيئة للغاية والتي تكاد تعتبر سوقية وتلفت الاستماع لها العديد من الشباب والصغار على مصطلحات لا يقدر بهم معرفتها، إضافة للصخب المزعج للغاية الذي يكاد يؤلم الأذن ولكن اعتقد أن السبب الأساسي هو الألفاظ المسيئة التي تنمي صفات غير مرغوب بها إطلاقا بالأجيال الصغيرة التي لا تدرك مطلقا مدى هذا التأثير سلبيا عليها.
لا أعتقد يوما أني استمعت لموسيقي قديمة تحمل هذا الصراخ وتلك الكمية الضخمة من الكلمات التي تشجع على العنف والسوء .
ولا أعتقد أن الأشخاص الذين حقا يدركون كيفية انتقاء الألحان سيعجبون بها لكن بالنهاية هي أذواق وآراء مختلفة.
تناولتُ الموضوع في مرّات عدّة سابقة من هذا المنطلق يا رحمة. لكنني أعود في كلّ مرّة إلى المعضلة نفسها. في الفن بشكل عام، في السينما والأدب والتليفيزيون وغيرهم، ألا تحتوي هذه السياقات على عنف؟ ألا يعدّ انعكاسًا للحياة في العديد من الأحيان؟
بالإضافة إلى ذلك، هل يمكننا أن ندين تمثيل العنف أكثر من العنف نفسه؟ إلى أين يمكن أن يتجه مصير الفن إذا ما أزحنا عنه مختلف الأدوات التي يمثّل الواقع من خلالها؟
قد أقول رأي غير اعتيادي في هذا الموضوع وغير رائج أو مُحبّذ، لإنني أعتقد بأنّ السبب الرئيسي لكل التعليقات السلبية التي نراها على الموسيقى المعاصرة على اختلاف أنواعها هو رغبة بالناس في التعالي فوق هذه المواضيع والانغماس بها في ذات الوقت، هي رغبة الإنسان الجديدة في تحصيل الفن والعمق والسخافة على طبق واحد، عدم تحصيل ذلك يسبب هذا الأمر، وكدليل حقيقي على كلامي، في أن الناس ورغم هجومها تستخدمها في كل المناسبات تقريباً ولديها مشاهدات عالية، هذا لإنّ الإنسان يستمتع بها على أنّهُ يمارس دور إقصائي تنظيفي أيضاً بوتيرة موازية، هذه حالة أدخلتنا بها السوشال ميديا، حيث هناك أنت الحقيقية، ذاتك الحقيقية، وأنت الافتراضي، ذاتك الوهمية التي تمارس دور القاضي عادةً في توزيع الرضا والسخط على المواضيع.
إنها النظرة التي يخشى الكثير منّا الاعتراف بها أو تناولها يا ضياء فعلًا. عانينا من الأبراج العاجية، التي تضع المعيار الأخلاقي على الدوام أمام أي مؤشّر آخر، سواء مؤشّر الاستمتاع بلون معيّن، أو استلطافه، أو حقيقة كونه سريع التناول. كل هذه المعايير لا تعبّر إلّا عن ثقافتنا الاستعلائية، والتي تضعنا أمام مشكلة كبيرة في المستقبل، حيث تؤدّي -كما أتوقّع- إلى أزمة كبيرة وفجوة ثقافية عملاقة بين مختلف الأجيال وبعضها البعض، بالإضافة إلى مشكلات الإدارة الفنّية وعدم تواصلها مع الذوق العام على الإطلاق.
إلّا عن ثقافتنا الاستعلائية
ليست ثقافة استعلائية بقدر ما هي شخصية شعبية متعالية ومن فراغ بمعظم الأحيان، عادةً ما يقوم الجانب الشرقي من هذا العالم برفع قيمة شخصيته ونفخها بأكثر بكثير من قيمة معرفته ووزنه الحقيقي، من هنا يخرج علينا المُنظّرين، الذين يعتقدون أنهم يسدون خدمة إلى العالم برفضهم لتلك الأغنية وتصفيقهم لتلك وبتعاملهم مع أي فن بالعموم، في ظن غريب بأنّهم مسموعين وقدوة للعالم.
من فترة شاهدت فيديو قصير لحوار بين الأستاذ نجيب محفوظ وأحد المحاورين، كان السؤال موجه للأستاذ عن رأيه في الأغاني والموسيقى المعاصرة وهل يسمعها أم أنه لا يعتبرها موسيقى من الأساس؟
وكان رده كالعادة مبهر رغم بساطته، " لو كان هناك شخص ما يستمتع بتلك الموسيقى فهي له، وأمر جيد أنه وجد ما يستمتع به "
رغم إعترافه بأنه لا يستمتع بها فهو تربى على موسيقى عبدالوهاب، لكنه فضل قول " ملناش دعوة "
وأعتقد أن كلامه هو الوصفة الصحية للتعامل مع الموسيقى بل مع كل المتغيرات التي لا نستطيع السيطرة عليها.
الهجوم غير المبرّر على الموسيقى المعاصرة نابع من رغبة في السيطرة على أمور خُلقت لتكون خارج السيطرة.
كل جيل يريد أن يظل متربع على عرش الاراء والجميع من حوله يدورون في نفس الفلك الذي رسمه مسبقًا، الهجون على الموسيقى نوع من أنواع الثورات الداخلية على كل شيء غير مألوف لفئة معينة من الناس.
أنا أجد نفسي مستمتع جدًا بما تقدمه لي الموسيقى المعاصرة لأنها تتناسب مع جيلي بشكل ما، وفي نفس الوقت أتفهم حب الناس للموسيقى القديمة على سبيل المثال حينما ألقي نظرة عليها.
المعضلة تكمن عند الجيل السابق والذي سبقه في أنهم لا يفهمون لماذا تغيرت موسيقاهم لموسيقانا وهو أمر خارج عن سيطرة كل منا لأن لكل عصر متطلباته ومتغيراته وبالطبع الموسيقى الخاصة به.
فأفضل دومًا الاستمتاع بما يقدم، ومالا يعجبني أتبع مذهب أستاذي نجيب محفوظ "ملناش دعوة"
رائع يا عبد العزيز. على الدوام أتناول وجهة النظر هذه بشيء من الاحترام الكبير والمرونة المريحة. وفي هذا السياق، أشاركك رأي مماثل في صلب الموضوع نفسه، للموسيقار الراحل محمّد عبد الوهاب، حيث ردّ ذات مرّة على سؤال للمذيعة عن رأيه أحد المطربين الشباب وقتها قائلًا:
طالما لقى حد يسقفله يبقى رأيي مش مهم.
صرّح محمّد عبد الوهاب بأن الجمهور هو الحاكم الأول، وبما أن صانع المحتوى، أيًّا كان رأيي فيه، وجد له جمهور، فإن مسألة الآراء والأحكام ليس لها مكان.
الموسيقى العصرية هي نتاج ظروف الزمان الذي ظهرت فيه، وتعبر عن احتياجات وتطلعات جيلها. ولايصح أن نهاجمها من منظور ذوقي، لأن للناس فيها يعشقون مذاهب. وهو حكم ذاتي لايستند إلى قواعد وضوابط الموسيقى، ولو أن هذه الأخيرة في تطور وإبداع توليفات جديدة باستمرار.
لا يمكننا أن نحكم على الموسيقى العصرية كلها على أنها فن هابط، فيها الجيد الذي يتوفر على مواصفات الفن الراقي.
ومهما يكن، فبالوفرة والكم نصل إلى الجودة والكيف، وفي الأخير الجيد هو ما يبقى.
التعليقات