اللغة التي لا تموت
ثمة نمطٌ غريب أخذ يتكرر في مجتمعاتنا، حيث يخرج علينا من يكتفي بقراءة سطر، ثم يعلن موت الكتاب. من يخطئ في نطق الجملة، ثم يعلن فساد اللغة. من يعجز عن التعبير، ثم يجلد اللسان الذي عجز به.
صار من المألوف أن نسمع من يُنظّر بأن اللغة العربية عاجزة، مترهلة، قديمة، لا تسع العصر، لا تطاوع الإحساس، ولا تعبّر عن الحنين أو الشوق كما تفعل لغةٌ أجنبية. يُقال هذا لا عن دراسة، ولا عن تمكُّن، بل يُقال بأعلى نبرة من ضميرٍ كسول لم يحاول يومًا أن يُصغي للكنوز التي بين يديه.
يا لسخرية الموقف...!
الذي لم يعرف من العربية سوى المقررات الدراسية الجافة، ولم يعانق قصائدها، ولا مرّ على حكاياتها، ولا خاض غمار نصوصها العذبة، يتجرأ على إعلان إفلاسها!
كأن الأعمى يصِفُ الألوان، أو كأن الغريق يُخبرنا عن ضيق البحر!
اللغة العربية لم تكن يومًا عاجزة، لكنها كانت وما زالت ضحية لمتكلمٍ خائف، لم يجرؤ على استكشافها.
هي لغة الأنبياء، والفقهاء، والفلاسفة، والعشاق.
لغة من قال:
ولستُ على الأعقاب تدمى كلومُها،
ولكن على أقدامها تُتقطّعُ.
ولغة من قال:
أحنّ إليكِ... فأين الزمان؟
وأين المكان؟
وأين القصائد؟
هل هذه لغة لا تعبر عن الشوق؟
أم أن العين التي لا ترى، هي المشكلة؟
يتباهى بعضهم بعبارة فرنسية رقيقة، أو تعبير إنجليزي أنيق، ويقارنها بتراكيب عربية سطحية، ثم يحكم: "هذه اللغة أبلغ، وتلك أقرب إلى الروح!"
ونسأل: أيُّ روح؟
الروح التي لم تعرف لغتها، أم الروح التي فُتنت بالغريب لأنها هجرت الأليف؟
اللغة لا تُختزل في جملة، ولا تُختصر في مادة دراسية. اللغة كائن حي، تنبض بقلوب المتكلمين بها، وتتجدد في أفواه المحبين لها.
ليست العربية من ماتت، بل القارئ الذي كفَّ عن القراءة، والمستمع الذي لم يُعد يسمع، والكاتب الذي لم يُعد يكتب.
إن جهل اللغة ليس جريمة فحسب، بل جريمة مزدوجة حين يقترن بالغرور. حين يلبس العجز ثوب "التحليل"، ويتحوّل الجهل إلى رأي.
اللغة العربية لم تُخلق لتتوسل القبول، ولم تُصنع لتُقارن. هي هوية، وجذر، وتاريخ، وهي ذلك الحنين الذي لا يُترجم، والعُمق الذي لا يُختصر.
هي البحر، ومن لم يتعلم الغوص، فليتحمّل السباحة على السطح.
ليست كل اللغات سواء، وليست المقارنة عادلة حين يُقارن العاشق بالمُتفرج، والمتذوّق بالهاوي، والجاهل بالمحب.
فدعوا عنكم إعلان الوفاة... فاللغة العربية لا تموت.
قد يتعثر المتكلم بها، لكن لسانها أبقى من أعمارهم، ونورها أسبق من عصورهم.
وكلما أُعلنت نهايتها، قامت من جديد، أكثر حياة، وأجمل لسانًا.
عدنان الورشي
التعليقات