ثوانى معدودة

ثوانى معدودة تفرق بين حال وحال، ما هى إلا ثوانى وقد كان فى صحته يأكل بمفرده، و فى كامل قواه العقلية، هذه الدقائق التى بعدها تنقله إلى حال أخر مغاير ،لم يكن فى حسابه، ولم يكن يوما يتوقعه؛ إنه القدر، دائم كان يحثنى أبى بالدعاء؛ اللهم ارزقنا الرضا بالقضاء والقدر، البعض ينعت هذا القدر بالشر لكن ومن يعلم أنه الشر لعله هو الخير، لكن الرضا كان ينقصه.

ربما زارته أعراض مختلفة لكنه فى شدة إنشغاله تجاهلها حتى زاره المرض فى حالته الأخيرة ليقرر أن أيامه معدودة وليعده لحال أخر يفقد فيها وقواه ومن بينها قوة العقل وقوة الحضور ليكن حاضر بيننا غائب عنا.

يجلس فى حديقة منزله ، وصوت العصافير فقط الكائن فى المكان، وجهه يعمه السكون والاستسلام، ويداه ترتعشان أحاول أن أطعمه بيدى فقواه قد خارت ولم تعد قادرة بعد على رفع الطعام إلى فاه؛لكنه يأبى ويرفض وفى إبائه وددت لو أبكى، أبكى بشدة ولكن صمدت لأجله، يكرر القول لم أكن هكذا ماذا حدث؟

  حرت فى أمرى، أله الحق أن يعلم بحقيقة مرضه، لكن طبيعته حساسة جدا، قد كان يبكى بشدة حين يعلم أن شئ أصابه فما عساه أن يفعل حين يدرك حقيقة مرضه، أسئلته يرددها باستمرار ماذا حدث لى؟ لم أكن هكذا؟ يشك فى الطبيب لعل دوائه هو ما أوصله لهذا الأمر، الكل فى حالة صمت وفى حالة صدمة الكل يعلم أنها أيام معدودة يحياها الكل فقط الأمل فى أن يمتد عمره أعوام وأعوام، ها هى النتيجة بجوارنا كل يوم يقطع ورقة يحسب فيها موعدة ولادة حفيده الأول، ينتظر هذا الوقت، كل يوم يطلب منى أن  أقطع لها الورقة وأخبره بالتاريخ، لقد سماه على اسمه ويسعد حين يذكر أن بعد أيام يصير جد.

  لم أقتنع يوما بتلك التوقعات حتى أخر نفس كان يتنفسه كنت أأمل فى رب رحيم يقول لشئ كن فيكون، وحدك يارب من تُحدث المعجزات وحدك يارب من تمدنا بالأمل حين  تتعطل الأسباب كلها، لم أكن لأصدق كلام تحاليل وما عسى علمهم أن يصل إلى الغيب، وما يعلم الغيب إلا الله، وحدك يارب نرجوك وندعوك أن تشفيه؛ لكن ماذا أليس الموت شفاء، أليس فى الموت شفاء لكل داء.

 مر الوقت بطئ جدا؛ وقت يجعلك فى حيرة ما بين يقين وما بين توقعات وبين حالة أقرب الناس وقد صار ضعيف، تحاول أن تكون قويا، تحاول أن تصمد فلا تدمع عيناك لحاله، لكن العين والقلب فى إباء للصمود.

ها هو الهلال بدا واضحا فى رحلة غروبه، ما زال فى أيامه الأولى يغادر السماء فى مشهد حزين، وها نحن بانتظار حضور جثمانه، فقد غادرته الروح منذ دقائق،  غادرته بعد أن أنهكه المرض، شهر يعانى، يعانى كل شئ وأشد معاناته أنه لم يعلم ما أصابه بعد.

لم تكن المرة الأولى التى أشهد فيه جسد ممد يعد لسؤال بعد قليل، لقد شهدت من قبل جسد جدى، جلست بجواره أنظره وأدعو إليه وأتلوا ما تيسر من القرأن الكريم، الأن تدمع عينى الآن أبكيك، أبكى كل ما مررت به؛ أبكى حيرتك وأبكى ضعفك وأبكى صبرك، أبكى كل شئ لكن لن أبكى فراقك ، فلقد فارقتنا منذ زمن.