الفصل 1 : لوحة العجوز

وقفت عند أول شارع الفنانين مونمارتر الفرنسي الذي قررت ان يكون آخر محطة في آخر يوم لها في  فرنسا . أخذت نفسا عميقا ، كان هواء الظهيرة باردا و قاسيا ،كما هو متوقع من صقيع باريس رغم ذلك فقد كان منعشا أحست به يتغلغل داخلها و يطهر روحها من الألم الذي كانت تحمله وراء ذاك الجمال الشاحب .. همست لنفسها : «عجبا كيف لهواء بارد ان يعطي نفس تأثير  دخان سجائري الحارقة ».

خطوة تليها الأخرى ، و الذكريات تغوص ببدرية بعيدا إلى مكان ما .. من طفولة راحلة  لكن ما ان صالت ببصرها في الأرجاء حتى سقط بصرها على رجل عجوز  نال منه الزمن  . كان الملفت في الأمر أن الشيخ كانت يده ترتعش يشدة و لكن بمجرد ان يحمل الريشة و يدنو بها على لوحته الملهمة أكثر يده  تثبت و كأن الشباب دب فيها من جديد و الحياة زخرت بها .

كانت اللوحة أكثر جاذبية من المنظر الفني العجيب "امرأة عجوز نحت الرسام علامات الزمن عليها بمهارة شديدة و دقة تجعل المحدق اليها ينتظرها ان تلتفت اليه و تحدجه بنظراتها التعيسة  التي أغرقت  عيونها الصغيرة التي  يتصارع فيها الحزن و الأمل الزائف و رغم تلك التجاعيد الا انه كان واضحا جليا أنها في شبابها حسناء. كانت تحدق عبر ممر حجري و كأنها تنتظر أن يظهر خيال أحد من هناك لكن عبثا فقد كان ممر بدون نهاية ..."

همست بدرية بصوت خفيض :" اللاعودة "  و قد كانت ملامحها توحي على الاعجاب و الدهشة من دقة الرسام و من المعاني و الترميزات التي تحاوط اللوحة لتقترب اكثر منها قائلة بلكنة فرنسية ممصضتازة و كأنها ابنة باريس القديمة : انها لوحة بديعة يا سيدي، ترميز مذهل عن الحياة و الانتظار " لف الرجل رأسه بهدوء و تبسم ابتسامة لطيفة لم تتوقع بدرية ان تراه يبتسم بسبب تلك الصرامة و الحزن الذي كان يعلوا وجهه و هو يرسم .

رمى الفرشاة باحترافية رسام عتيق داخل دلوها و انبثقت منه رائحة قوية اقرب لرائحة  البنزين .   دام الصمت لثوان معدودة و قد   كان موترا لبدرية كون أنها شعرت باحراج لتطفلها عليه . التقط الرجل غليونه و اوقد جمرته و استنشق الدخان بكمية كبيرة ثم قال : "  لم تكن ترميزات  سيدتي، لقد كانت حقيقة و حسب . الألوان لا تلفق و لا تكذب لما تمتزج بين الايدي الصحيحة. " انبهرت بدرية بالكلام الذي قاله فهي حسب تخصصها قد قرأت حول اللوحات و تحليلها النفسي لتهتف برزانة مخفية الحماس الذي انتابها فجأة : " ماذا تعني بالحقيقة، هل تقصد أن العجوز ليست اسقاط على الزمن الذي يتعبنا اذا انتظرنا ؟؟ و انها حقيقة ؟ رمق الرجل العجوز بدرية بنظرة جانبية و ابتسم باتساع أكبر : احببت  تذوقك للوحات عكس هؤلاء العابثين ، اجل اقصد ان هذه العجوز و هذا المنظر حقيقي . تغيرت نبرة الشيخ و صارت اكثر حزنا و عمقا و كان الألم غاص به لذكرى توجعه ...ان هذه اللوحة هي آخر شيء نقله لي جار عزيز اسمه دوغلاس لما ارسل لي ببرقية لما كنت في ميلانو و واورد بها أن والدتي الغالية توفيت و هي تنتظر رجوعي في ممر البلدة . أحست بدرية بغصة  و هتفت : "أنا آسفة يا عم ذكرتك بشيء مؤلم" .  اجابها الشيخ و هو يلوح بيده بمرح لا يعرفه من بعمره و دخان غليونه يتبعثر امامه  : لا عليك يا بنيتي لا يوجد ألم يضاهي ذاك الألم وقد انقضى ، أن تترك الوطن خلفك بمن تحبهم سعيا وراء اهواء نفسك فتتهرب منه حتى يفلت منك . أمي كانت وطنا حقيقيا لي  و لكن أدركته متأخرا ، اقول لك قولا اذا وجدت وطنك لا تهجريه فهو لما يهجر لن يعود " أحست بدرية بشعور لم تقدر على تفسيره كون امها هجرتها للقبر و وطنها غير معروف لها لكنها بلعت فوضى شعورها و تبسمت للشيخ و هتفت بكل حماسها الذي تملكه : " اعدك أني ساخذ قولك و اعمل به يا سيدي ، و لا تحزن اعتقد ان هناك وطنا في ارض اخرى ستجتمع بها مع والدتك لانك صالح يا عم " 

ضحك الشيخ قليلا و ابتسم : تبدين كراهبة صالحة أيضا ! انك نسمة طيبة مع هذا الصباح اتسمحين لي ان انظر لك بضع اللحظات و انت جالسة على ذاك السور ؟

ابتسمت بدرية خجلا من مدح الشيخ و لكن طلبه بدا لها غريبا .. و سألت بتردد : سأفعل  لكن يا عم ما الغاية من ذلك ؟ أجابها الرجل : ان كل لوحاتي تحكي قصص حقيقية و اريد ان تكوني احداها  . لم يكن لبدرية سوى ان تبتسم ابتسامة شابها الحزن و تبللت أهدابها الكثيفة بدموع كانت تكتنزها منذ زمن بداخلها و كأن الله يعطيها أمنيتها الاخيرة و هي ان تبقى ذكراها جيدة بينما هي تقترب من قبرها .

كسر صمتها الرجل : انا اسف يا بنيتي ان احرجتك بطلبي .

بدرية : لا لا ، تذكرت شيئا فقط ،  انا في قمة السعادة لان فنان راق مثلك سيدي سيجعلني ضمن لوحاتها الراقية .

مضت بدرية وفق طلب الرسام و قد غرقت في تفكيرها حول سبب قدومها لفرنسا ، الا و هي مارغريت أو كما يعرفونها في الميتم بماما روشكا . فقد تاكدت ان باريس بالفعل كما وصفته  ماما روشكا مليئة بالتناقضات و تعطي انطباع غريب جدا .

نهضت بدرية بعدما رأت تلويح الرسام الشيخ بمعنى انه نال غايته ، فاقتربت منه و قد انحنت قليلا و راته قد وضع الخطوط الاولوية لرسمته  و قالت بدرية بصوت مرح و ضحكات خفيفة : انا أراهن بكل املاكي انك  ستجعلها أجمل مني .

ابتسم لها الشيخ : انت رقيقة و باردة كندفة ثلج ، لكن تعطين دفء جميل ، لا اعتقداللوحة ستفعل هذا يا بنيتي .

بدرية : ربما . . .  لكن ساتركها معك اتمنى الا ترد طلبي يا عم ، و لدي آخر و قد سحبت ظرفا من حقيبتها البيضاء و مدته له :و اتبعت :  اسمح لي ان اعطيك هذا الظرف و اتمنى الا تفتحه الان افتحه الشهر القادم في 08/03 ايمكن ذلك ؟ ؟

الشيخ كان مستغربا من تصرفات بدرية التي بدت سريعة و غيؤ منطقية .. الا انه لم يخالفها و اخذ الظرف عنها و اومأ بالايجاب دون ان يسأل اي شيء .  انحنت له بدرية بكل رقي و احترام و ابتسمت بامتنان و مضت في دربها مكملة طريقها عبر الممر الزاخر بالابداع .

❄ بقلمي ❄