أرتجف بردا، الهواء بارد يلسع بشرتي الحساسة، ورائحة الرطوبة تطبق على أنفاسي. تكورت فوق السرير الخشبي واحتضنت نفسي لعلي ألتمس بعضا من الدفئ في هذه البقعة المنعزلة. قبل شهور تعد على الأصابع كنت أميرة منعمة، مكرمة في بيتها، كنت قرة عين أبي وأخي، فبعد موت والدتي وأنا طفلة لم يكن لي سواهما.

الآن، لم يعد لي أب حازم يريحني في حضنه، ولا أخ لعوب يهرب لي الحلويات في منتصف الليل. 

معهما ذهبت الأصوات وذهبت الأضواء، فلا صوت بعدهما قد يسري عني، ولا ضوء غير إشراقة وجههما قد يبهرني، هكذا، ببساطة كخرقة بالية لم تعد تسوى قرشا رميت في إصلاحية على ضاحية المدينة، حيث لا أطباء يعالجون ولا ممرضات تصون، فقط الجدران الباردة تبكي، والنوافذ تزوم.

ظلام في ظلام، صمت مطبق لا يعكر صفوه شيء، عشت لمدة تسعة أشهر، ولي منها خمسة في هذا الكهف المرهب.

أتحسس الجدران لعلي ألتمس طريقي فتنزلق يداي في الماء، وأرهف شمي لعلي ألتقط رائحة تطبطب على قلبي فلا تقابلني سوى العفونة ورائحة الطحالب.

على الأقل، مرة في اليوم، لمدة ساعة، كان يسمح لنا الخروج من غرفنا، لنجلس في الحديقة الصلبة قرب بعضنا كالنعاج، نتنفس هواء نظيفا، ويقدم لنا بسكويت مالح هو أشهى ما يقدم في هذا المكان.

مجانين وعميان، حمقى وأغبياء، معاقون وأطفال، كنا حفنة من الناس تخلت عنها الدنيا. 

 لم يكن نصلح حتى لنعمل كخدم، ولا كأطفال حلوة ليتم تبنينا، أجسادا تنتظر الموت.

لم أكن أعتقد يوما أنني قد أشتم رائحة عطر في هذا المكان بعيدا عن رائحة عرق الممرضات، ورائحة الحليب التي تفوح من الأطفال، ورائحة شجرة الصنوبر التي تتساقط ثمارها فوق رأسي دوما، لكنه لدهشتي حصل! 

رائحة قوية تجبرك على العطاس، مزيج بين العود وخشب الصندل. كانت الرياح تنشرها في كل مكان فلم أستطع قط أن أعرف صاحبها. 

لمستني أيد غليظة ودفعتني للمشي، لم يكن وقت الاستراحة انتهى بعد، فعلمت أن ضيفا مهما قد جاء. 

عدت لغرفتي واستقبلتني رائحة العفونة، لكن بعض من تلك الرائحة كان يقاوم فيدخل إلي.

يوم تلو الآخر ظلت الرائحة تحوم في المكان من حولي، خفيفة في غرفتي، قوية بالداخل، مبعثرة في الخارج.  لم أبصر لأعرف صاحبها، ولم أسمع لأعرف إن كان هنا أم غادر وترك رائحته تجوب.

ثم كان أن اقتحمت تلك الرائحة أنفي بقوة شديدة ذات نهار ندي. وأحسست بظل شخص فوقي، كان بلا شك مقرفصا لكنه مع ذلك يفوقني ضخامة. رفعت عيناي نحوه وحدقت في السواد دون أن أرى شيئا.

مرت برهة، ثم أطبق على يداي، فحركهما ملوحا في حركات عشوائية، مرة وأخرى. ثم سحب يداه وغادر.

 مررت يدي على ذراعي، لعله أراد أن يخاطبني بلغة من لا يسمعون، لكني لا أفقه أي لغة الآن، لا لغة الصمت، ولا لغة الكلام. خرساء، صماء، عمياء، بماذا قد يعبر شخص مثلي!

فجأة من حيث لا أدري أطبقت علي اليد من جديد في قوة، جذب ذراعي في حركة ملحة، وحين لم أتحرك سحبني بعنف فأوقفني على قدمي، وسحلني وراءه كأنه يجر نعجة.

 قفزت حياتي قفزة واسعة، سرير ناعم، رائحة ورد حلوة تحيط بي، ويدان حانيتان ناعمتان تحممان جسمي وتمشطان شعري، طعام شهي وهواء نقي دون رطوبة.  

 لكن ليس لطعم الطعام أهمية، ولا نعومة الحرير قد تغريني. ماذا يريد مني هذا الذي أحضرني لبيته؟ 

عددت ثلاثة أيام بلياليها ثم اقتحمت تلك الرائحة القوية عالمي من جديد. أمسك الرجل، كان رجلا بلا شك، يداي من جديد ووضع بداخلها دفترا ضخما، أجبرني على تمرير يداي على الحروف الناتئة فوق الورق، لم أستغرق وقتا طويلا لأعرف أنها برايل. 

ما حاجتي لتعلم الحروف إن لم يكن هناك في عالمي الأسود أحد؟ 

سحبت يداي فقبض على أصابعي بشدة آلمتني، وضع يداي على الحرف الأول . 

« ياء، ألف، قاف، واو، تاء»

  ياقوت كان هذا اسمي، لفظ شيئا بجانب أذني، جعلني الهواء الساخن أرتجف فدفعت وجهه عني بقوة وعصبية، حتى أنني شعرت بيدي تخترق عينه.

كان قربي، لكن بعد هجمومي بقي ثابتا لعدة ثوان، قبض على يدي بشدة، التقط الدفتر ثم مرر أصابعي غصبا على الحروف

«هاء، ألف، راء، واو، نون» هارون؟ 

مرة تلو الأخرى، جعلني أحفظ نفس الحروف، لكني لم أبدي أي رد فعل له، وهذه المرة كتب بأصابعي جملة طويلة. كان يترك بين كل كلمة وأختها فاصلا زمنيا

«أعلم…أنك…لست… غبية!» 

من الغبي؟ حتى أطفال الروضة يستطيعون التعرف على الحروف بمجرد لمسها فكيف بجامعية مثلي؟ 

ترك يدي، فنقر بإصبعه فوقها وعلى الدفتر. تركت الدفتر ينزلق عمدا فوضعه من جديد في حضني ونقر بإلحاح.

أشحت ببصري إلى اللامكان، فوضع يده بقسوة على فكي وأجبرني على الاستدارة.

عشر محاولات، ما بين جمل متفرقة منه، وصمت مطبق مني، حتى عيل صبره، فخطف الدفتر مني وذهب.

ساعة أو نحو ذلك، دوما في الصبح، أنتهي من الفطور فتقتادني الخادمة مباشرة لنفس الغرفة، تجلسني على نفس الكرسي وتعصف بي نفس الرائحة القوية، يوضع الدفتر فوق قدماي ويبدأ شجاره معي. 

كان يعرف تماما أني أجيد قراءة ما يكتبه بأصابعي قسرا، وإن لاحظ اني لا أركز يجبرني على التركيز بنقر جبيني تارة، بقرص يدي، بشد أذني، فعل كل ما يتطلبه الأمر ليبقي تركيزي على الدفتر.

«والدك»

كلمة من وسط جملة طويلة كتبها غاضبا، حدقت فيه بعيناي وحاولت سبر الظلام لألمحه، قابلني بالصمت فنقرت فوق الكتاب بعصبية. بحثت بيداي عن الحروف في فوضى، سحبت يده، أتحسس بيد الحروف ثم أضع اصبعه على الحرف الصحيح

«والدي»

انتظرت ما يكتبه لي بلهفة

«إذا أنت في النهاية لست غبية؟»

انطفأت شمعة حماسي فكأنما لاحظ ذلك سحب يدي وبدأ بالكلمة المثيرة

«والدك، كنت وصية والدك. بحثت عنك في كل مكان»

«بماذا أوصاك والدي؟»

«بالاهتمام بك»

«لكن والدي لم يكن له أصدقاء كثر»

صمت طويلا، ترددت أصابعه على الحروف، كتبت له

«ليس بينهم اسم هارون»

«إذا عرفت اسمي؟»

«كيف تعرف أبي؟»

لا جواب

«أبي طبيب. أنت لا تبدو لي أبدا كطبيب»

مضت هنية، ثم كتب لي بسرعة

«يجب أن أذهب» 

ترك لي الدفتر هذه المرة ثم اختفى ظله من فوقي، وبقيت رائحته.

قضيت يومي هائمة في أفكاري، ما علاقة هارون بأبي؟ أ هو صادق في قوله أم يخدعني، وإن كان فلم يأوي فتاة عاجزة مثلي؟ ماذا يبغي مني؟ 

أ حقا بحث عني طبقا لوصية، أم رآني فجأة فأخذني لهدف يضمره في نفسه؟ من هو هارون؟

أستطيع أن أعرف من رائحته القوية، من حجم يداه وخشونتهما، من ظله الفاره أنه رجل قوي، لكنه يغضب بسرعة.

أستطيع أن أعرف من ممرات منزله أنه منزل ضخم  لرجل إن لم يكن غناه فاحشا فهو ميسور الحال، فماذا يريد مني؟ 

في اليوم التالي جاء إلي في نفس الساعة، بادرني بتحية على غير عادته، كانت يداه رقيقتان تطيران فوق الحروف، كأنه لا يطيق صبرا 

«سنتعلم شيئا جديدا اليوم»

«كيف تعرف أبي؟»

«الحروف صعبة، سأعلمك لغة الإشارة»

«كيف تعرف أبي؟»

«هنا، نقول شكرا هكذا»

سحب يدي عنوة فوضعها على رأسه ثم جذبها، كررها ثلاث مرات ثم تركني.

ولماذا شكرا؟ على ماذا يجب أن أشكر هذا العربيد الأحمق؟ لماذا لا يعلمني شتيمة أولا؟ سأكون مسرورة بتعلمها وتطبيقها عليه.

سحب يدي من جديد فصفعته على وجهه، أنا متأكدة أنه كان للصفعة دوي هائل فقد تورمت راحة يدي وشعرت بقلبي ينبض داخلها. مم صنع هذا الغول؟

أمسك يداي بقضبة قوية، سحب ذراعي اليمنى فوضعها على صدري ثم أجبرني على خفض رأسي، مرة تلو الاخرى، مرة تلو الأخرى، يداه كانت قويتان، ولم تكن تلك انحناءة خفيفة، بل جعلني اتضرع له تضرعا، لم أكن غافلة عن المعنى الذي يريد إيصاله لي بحركته الغاضبة لكني أبيت أن أرضخ له.

كانت الخادمة قد جعلتني أرتدي قرطا هذا الصباح، فعلق في ثيابي وبين شد وجذب منه ومني سُحب القرط من أذني بعنف، تمزقت أذني وصرخت من أعماق قلبي.

توقف فجأة، لمس أذني، وسارع بوضع منديل عليها، الألم لم يكن يطاق وتفجرت الدموع من عيناي الحالكتين.

دفعته عني، ضربته وضربته، كنت أصرخ فيه بصوت لم أعرف قط أنه أقرب لنعيق بومة، فحبالي لم تكن قط في حالة تسمح لي بالصراخ الطبيعي.

سحب يدي ووضعها على صدره ثم أخفض رأسه لي، استمر يضرب بيدي على صدره،  أفلتني، ضم وجهي الباكي في صدره حيث خنقتني الرائحة القوية لعطر العود.

في اليوم التالي أعطاني الدفتر وكتب لي جملة واحدة

«لا أعرف والدك»

سحب يدي ووضعها على صدره فقذفت الدفتر في وجهه. كنت أعلم أنه يخدعني، أراد فقط اهتمامي.

أعاد الدفتر لي وجلس هناك صامتا وقتا طويلا. ثم تحرك فجأة فأمسك يداي ووضع الابهامين تحت حلقي وسحب اليدين بطريقة عنيفة. خط لي على اللوح

«أكرهك»

حدقت فيه لوقت قصير ثم كررت له الحركة بكل غل وقسوة مرة، ومرات.

«أحسنت»

ومنذ ذلك اليوم دأبت على استعمال تلك الحركة كالببغاء.

ظننته سيتوقف عن تعليمي بعد كل ما حصل لكنه لم يفعل، بل دأب على تعليمي كلمات جديدة، ويراجع معي القديمة فلا أجيبه سوى ب«أكرهك»

وشيئا فشيئا تخلى عن الدفتر وبدأ يستعمل يداه معي بطريقة ماكرة ليعلمني الحركات، كانت حجتي أن أتظاهر بالغباء لكني كنت احفظ الحركات حفظا، بل وأستعمل بعضها مع الخادمة، علمني شتائما لا لزوم لها فقط لأنه يعلم يقينا أني سأستعملها عليه، وفعلت. 

وفي النهاية لم نعد بحاجة للدفتر، كان يكفي أن يمسك يداي ويكرر الحركات ببطء لأعي كل ما يريد إيصاله لي. 

وبهذا أكملت ستة أشهر كاملة في بيت هذا المجنون الذي لم أرى وجهه قط ولم أسمع صوته، ولا أميز منه شيئا سوى رائحته وظله.

وأثناء أحد حصصنا اليومية المعتادة طلب مني فاصلا على غفلة، ترك يداي معلقتان في الهواء بشكل متقاطع ثم انسحب لدقائق طويلة، وعندما عاد أمسك يداي بتوتر فحركهما ثم اختفى وعلمت من رائحته المتبعثرة أنه هرب مفزوعا.

«سأذهب»

يوم فاثنان، فثلاثة ولم يعد هارون قط. عدت لعالمي الفارغ، فلا رائحة قوية تؤرق مضجعي، ولا يدان قويتان تشدان على يدي، ولا رجلا غاضب يقف فوقي كخازن النار.

علمت في تلك اللحظة كم أنني كنت غافلة عن  ما بعثه وجود هارون في حياتي الفارغة. لا الخادمة تجيد الكلام فتكلمني ولا الحيطان تفهم لغتي.  

 لم يتحدث معي أحد قط، ولم تكن هناك معلومات جديدة تدخل عالمي سواء معلومات غبية عن سوق البورصة، أو عن جريمة قتل غامضة في حي فقير، ولا عن سقوط طائرة رئيس سياسي. كنت أتظاهر بأني لا أهتم بهذه المواضيع السخيفة التي يرويها لي هارون على مهل حركة بحركة، لكني الآن أعي خطأ ذلك، فقد كنت أحفظ كل كلمة، وأخزن كل حركة.

 الآن لم يعد لدي ارتباط خارجي بالعالم كأنني عزلت من جديد في فقاعة خانقة بلا هواء.

كنت أنسحب بنفسي للغرفة وأجلس هناك بانتظار هارون، بشكل تلقائي ودون أن يقتادني أحد.

أراجع الكلمات كالحمقاء وحدي، وكثيرا ما أغفو أمام هذا الصمت الخانق الذي عاد يلفني.

ما ظننت قط أن مجرد حركات وحروف قد تعيد إحياء عالمي، وما ظننت رائحة قوية تسبب العطاس ستكون محور عالمي الجديد.

مر شهران على هذه الحال، ورويدا رويدا بدأت أعتاد الصمت  وأغرق فيه كأنني ما كنت حية قط، حتى ظننتي ألقيت في سجن جديد به طعام وفراش. 

 ذات يوم التقط أنفي الحساس الرائحة المميزة. كانت بيدي كومة من الخرز ألعب بها وأشكل بها عقدا. 

رفعت رأسي نحو الباب أنتظر ظله، بدلا من ذلك لاحظت رائحة دخيلة تقترب، رويدا رويدا حتى أصبح صاحبها قرب وجهي تماما، لو لم يقترب لما لاحظته بسبب عطر هارون القوي.

تركت الخرز تنزلق مني ومددت يداي لأمسك بوجه الشخص وجذبته بعنف نحوي. 

لم أكن واثقة إن كنت أستطيع التعرف على وجه مخزن في الذاكرة عبر تحسسه، ليست هناك لحية شاذة كما أذكرها، ولا نظارات ضخمة تغطي العينين. الوجنتان غائرتان، والرأس ذو الشعر الغزير ملفوف في ضمادة، والذراع اليسرى مفقودة.

لكن تلك الرائحة الحلوة لعطر خفيف من الفانيلا والقرفة والبخور الحارة، عطر تمر فيه الرياح فتبعثره، هذه الرائحة الوحيدة التي كان أخي يستعملها دوما.

لم تكن لدي عينان لأبصر  ولا أذنان لأسمع، ولا صوتا لأسأل به، لم تكن لدي وسيلة غير أنفي فكيف بي أعرف الحقيقة.

تركت دموعي تسقط، و جسدي يتعلق بساقي الرجل الذي أمامي متشبثة بأمل أدعو ألا يكون زائفا.

مات أبي وأخي في حادث طائرة منذ  سبعة عشر شهرا، مات سنداي الوحيدان في الدنيا ولم يعد لدي منزل ولا مأوى، وأما أنا التي نجوت ضمن عشرين مسافرا في حالة خطر فقد فقدت الأضواء والأصوات وأحباء القلب.

عمتي التي نالت من الوصية حصة كبيرة بصفتها الوصية علي بعد والداي لم ترغب في أن تصون فتاة عاجزة فدفعتني لأبعد إصلاحية، غير مهتمة حتى بما سوف يكون عليه حالي داخلها. 

انحنى الشاب إلي، احتضنني بيد واحدة، قبل رأسي وضمني لجسده الهزيل. 

ما هذا جسد أخي القوي الذي كان يفتخر بقوة ذراعيه واحمرار خديه.

تحرك الهواء قرب أذني، لم تصل لي الكلمات قط فارتفع صراخي.

شعرت بهارون قربي، أدارني نحوه، رفع ذراعي فأمسكت يداه بجنون، كررت الحركة بجنون:

«أخي، أخي، أخي»

أمسك بكلتا يداي، ضمهما في رقة ثم حركهما للأعلى والأسفل. 

«أجل»

هززت رأسي بعنف وعدت أحدق في الرجل الثاني الذي أمامي، ارتميت فوقه فاحتواني بقوة، وشعرت بدموعه المالحة تبلل وجهي وتدخل فمي.

على نفس الأرض الباردة، مضمومة في حضن أخ أطفأت الحياة شمعته، أخذ هارون يدي وبدأ يحكي لي، وبقدر ما ركزت في الكلمات، بقدر ما أيقنت أن لا حياة لي دون هارون، من سيملأ حياتي بالأصوات الصامتة؟ ويقص علي أخبار العالم التافهة. من سيجعل من كل حركة خرقاء باهتة معنى، غضبا، فرحة، حزنا ورقة. كانت أصابعه ماهرة ويداه تعبران أكثر مما أذكر أن الأصوات كانت لتفعل.

«ياقوت»

اقترب مني قليلا فاختلطت رائحته وطاردت رائحة أخي.

«أعلم أن الخبر صعب عليك. هذا أخوك لكنه ليس بأقل حال عنك. لقد فقد نصف كبد، ذراعا وذكريات كاملة عن معظم حياته»

أخفض يداي في فاصلة زمنية وأردف

«لا يذكر عنك شيئا إلا كونك طفلة رضيعة. واحتجت وقتا لاقناعه واحضاره لهنا. ووقتا اطول لأتأكد من هويته»

«شهران؟»

«أكثر من ذلك»

رفع يداي عاليا 

«أكثر بكثير»

«منذ أحضرتك لبيتي بدأت أبحث عن كل ما يخص حياتك. التقطت خبرا ضئيلا عن أخيك بعدها بشهر، ثم وجدته مرميا في مشفى حكومي في غيبوبة. قارنت حمضكما النووي مع بعض فتطابق، وهنا نقلته على وجه السرعة للمشفى»

«لم تخبرني؟» 

«لقد كذبت عليك في المرة الأولى لأحصل على اهتمامك فهل كنت ستثقين بي مجددا؟»

صمت، دفنت نصف وجهي في صدر أخي وتركت يداي في قبضته

«حين غادرت أخر مرة كان قد استيقظ لوقت وجيز من غيبوبته، ولأني أرسلته لدولة أخرى لتلقي العلاج فقد كان علي أن أكون هناك بنفسي لأحضره، لكن عندما اكتشفت غياب ذاكرته احتجت وقتا طويلا»

«هل أخي يسمع؟ يرى، يتكلم؟»

«نعم، يراك، يسمعك، ويهتف باسمك بكل وضوح»

توقفت يداه للحظة

«لنقل فقط أنه لم يعد وسيما، وأنه مشوي قليلا؟»

انتفضت في مكاني ومررت يداي على بشرة أخي من جديد فانتبهت هذه المرة للجلد المتجعد. آثار حرق شديد. 

جذب هارون يدي في اصرار

«لدي خبر آخر. استعدت لكما منزلكما من تلك السارقة. هي من تجاهلت في المقام الأول إمكانية أن أخيك على قيد الحياة رغم أنهم أخبروها باحتمال وجوده بين المصابين»

ببطء شديد نبس بالحركات

«لديك الآن حضن ومنزل تعودين له»

«لماذا؟» 

ترك يداي برفق ثم نهض، ابتعد ظله عني. نهض أخي واقفا فدعمني بجسده. وضعني على الكرسي الوثير ثم قبل جبيني، شد على يداي وغادر.

لم تخفت رائحة هارون فعلمت أنه لا يزال في الغرفة، وقفت وتقدمت بخطى متعثرة حيث أظنه يقف، مددت يداي في الظلام فتشابكت أيدينا، وقفت للحظات مستأنسة بدفء يديه الخشنتين. 

«لماذا فعلت كل هذا؟ لم أكن وصية أحد فلماذا أويتني، بحثت عن أخي وأعدت لي منزلي؟»

«كنت وصية الخالق»

نظرت له بتساؤل فنفخ في وجهي نفسا حارا هائجا ثم أصبحت حركات يديه عنيفة، سريعة، بالكاد فهمت كلماتها المتفرقة

« رأيتك هناك، جالسة تحت شجرة الصنوبر، بشعر يماثل لونه التراب المسقي، وعيون كعيون الهررة تلمع في الشمس. وعليك ذلك الثوب الأزرق البالي. ماذا كنت لأفعل؟ كان علي أن أختطفك وفعلت» 

«لماذا؟»

«أحب مساعدات الجمعيات المهمشة، فعل الخير يعود دوما عليك بخير»

«لماذا؟»

«لماذا؟ ماذا؟ ما الذي أهرطق به أمامك ياقوت!» 

«لماذا أخذتني. لأنني جميلة؟»

طرق على رأسي بقبضته 

«لماذا تظنني جميلة؟»

«لم يكن يجب أن أعلمك هذه الكلمة»

«ما هي؟»

«لماذا!»

ابتسمت، توقفت يداه ومد يده نحو وجهي فلمس حدود شفتي.

«هناك كلمة لم أعلمك إياها»

ترك إحدى يداي وأمسك الأخرى بإحكام، جعلني أضم الوسطى والبنصر تاركة باقي الأصابع ممدودة. مرر يداه على أصابعي برفق شديد فنظرت له بتساؤل زفر أنفاسه، وضع يداي تحت حلقي ونفضهما في وجهي فارتجفت 

«أكرهك» 

اندفعت رائحة النعناع بقوة نحو أنفي فعلمت أنه يضحك مني، كانت يدي ما تزال على وضعها، وحركته الأخيرة تمر بعقلي كالزوبعة. يكرهني؟ لماذا يكرهني؟

حمل يداي لشفته ونطق الحروف على مهل فاخترقني المعنى.

«أحبك»

أردت أن أسأله، لماذا تحب عاجزة مثلي، لماذا تحب عمياء لن تراك، صماء لن تسمعك، خرساء لن تناديك. لكنه أخفض يداي عن شفتيه ووضعهما على وجهه وأمام ملمس وجهه الذي أحس به لأول مرة ضاعت الأسئلة، من منبت شعره الخشن، حتى رموشه القصيرة، من شحمة أذنه حتى فكه، نحو شفتيه فلحيته الكثيفة.

لم يعد يهمني من هو هارون، لماذا اختطفني من بؤسي ليحبني، لماذا خاطر برفاهيته ونومه  وأعاد لي جزءا من ماضيّ السعيد. 

لماذا كلمني بيداه وجعلني أرى العالم بعيناه. 

كل هذه الأسئلة لا تهمني، لدي جواب واحد يملأ قلبي.

أحبه، عطره المثير للعطاس، ظله الفاره، ويداه الخشنتين، حركاته السلسلة، وغضب أصابعه، هدوءه، دفئ حضنه، ورائحة النعناع التي تخرج مع أنفاسه، أحبه بكل ما فيه.

أستطيع أن أحبه بيداي، بأنفي، وروحي، بحدسي وبكل عضو حي في جسدي.

لن أناديه، لن أبصره، لن أسمعه، فقط سأمد يداي وأتحسسه في عتمتي. 

 فهل هذا يكفيه؟ 

«ياقوت. تزوجيني»

«انتهت»